كان الشاب العشريني مراد فتاش من مدينة سلفيت شمالي الضفة الغربية المحتلة ينتظر السابع من كانون الآخر (يناير) الجاري بصبر نافد، ليلتحق بأول دوام عمل له بعد سنتين من بحثه عن فرصة عمل، إلا أن فرحة قبوله في وظيفة مندوب مبيعات لدى إحدى الشركات المحلية داخل مدينته لم تكتمل، بسبب مسلسل الاعتقال السياسي الذي كان مراد إحدى ضحايا حلقاته.
عندما أشارت عقارب الساعة آنذاك إلى الواحدة بعد منتصف الليل، أفزعت طرقات قوية نوم عائلة فتاش القاطنة وسط سلفيت، وهرعت الوالدة خديجة فتاش "أم نضال" مسرعةً لفتح الباب، فإذا ملثم يسأل: "وين مراد؟".
تقول أم نضال (50 عامًا) لصحيفة "فلسطين": "دائمًا في هذا الوقت تأتي قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتطرق الباب، وفي حال تأخرنا عن الفتح الباب يخلعونه بالمتفجرات، وعندما فتحت الباب سألني الضابط عن ابني مراد، فأجبته أنه نائم، فطلب مني إيقاظه".
ذهبت أم نضال لإيقاظ نجلها ورجعت، فإذا عشرات الجنود الملثمين وبلباس عسكري ومعهم بنادق رشاشة سوداء اللون يملئون البيت، تعاملت هي على أساس اعتقادها أن هذه القوة تابعة لقوات الاحتلال، لتفاجأ حين قال أحدهم لمراد: "أنا ضابط من الأمن الوقائي (التابع للسلطة) بدك تيجي معنا".
والدته التي تأثرت بالمشهد السابق تعبر عن غضبها بالقول: "جاء الوقت الذي لم نميز بينكم (أمن السلطة في رام الله) وبين الاحتلال"؛ على حد قولها، مشيرة بذلك إلى التنسيق الأمني بين الجانبين في الضفة الغربية.
وفي 2017م تخرج مراد (23 عامًا) في جامعة النجاح الوطنية بتخصص إدارة الأعمال، ومنذ ذلك الوقت يطمح إلى الالتحاق بفرصة عمل، إلا أن ثمة معيقات اعترضت طريقه، أبرزها مسلسل "الاعتقال السياسي" الذي تمارسه أجهزة أمن السلطة.
وخلال مدة الدراسة طال فتاش عشرات الاعتقالات والاستدعاءات من أجهزة أمن السلطة، كما تذكر أمه.
وأسر الاحتلال أيضًا هذا الشاب في سجونه نحو 10 شهور، وكان ذلك بعد أسبوع من خروجه ذات مرة من سجون السلطة، وهو ما يعرف بسياسة "الباب الدوّار".
وفي السنة الدراسية الأخيرة له اعتقل في سجون السلطة نحو أربع مرات.
وتضيف الوالدة: "في كل اعتقال يمكث نجلي نحو 14 يومًا، ثم يخرج دون محاكمة لعدم وجود تهمة موجهة إليه، فضلًا عن الاستدعاءات التي يمكث فيها يومًا أو اثنين ثم يفرج عنه".
العامل المشترك
وما يضاعف حزن والدته أن هذه الاعتقالات كان بينها عامل مشترك، إذ تزامنت هي ومناسبات سعيدة له، مثل: حفل تخرج شقيقه الأكبر، وزفاف شقيقه الآخر، وحفل تخرجه، وأخيرًا حصوله على فرصة عمل.
وتتابع أم نضال بعد تنهيدة عميقة: "كلما جاءت مناسبة فرح لابني كان الاعتقال أسبق له منها، وعندما بدأ في عمل جديد اعتقل، هذا الأمر جعلني أشعر أن الأمر ليس مجرد اعتقال سياسي، بل إنه وسيلة لمحاربة الشباب في رزقهم وحياتهم ومستقبلهم، ولهذا الأمر أنا أضربت عن الطعام".
وتروى السيدة الخمسينية قصة توضح بها أحد أنواع التعذيب المستخدمة في سجون السلطة، قائلة: "أخبروا نجلي ذات ليلة أن شقيقه الأكبر أصيب في حادث سير، ويمكث في العناية المكثفة، وجعلوه يعيش 14 يومًا في قلق وخوف على أخيه، وكان هذا الأمر كذبًا".
والاعتقال الأخير لفتاش تعده والدته مغايرًا لما ألفته عند اعتقال أبنائها وزوجها عز الدين فتاش مدير مكتب نواب قائمة التغيير والإصلاح في محافظة سلفيت، لأنه تخلله اقتحام "الوقائي" البيت.
وتروى الأم لحظة الاعتقال: "ما خلوني أودعه، وبالعافية لما خلوه يلبس سترته".
وعن التهمة الموجهة لنجلها تقول: "لا يوجد أي تهمة لابني، ويبدو أن إضرابي ثمانية أيام ضغط على السلطة، فأفرجت عنه في 16 من الشهر الجاري".
وتكمل بتأكيد أن استمرار هذه الاعتقالات السياسية يعمق الانقسام.
وبعد تحرره من سجون "الوقائي" لا يزال "كابوس" الاعتقال السياسي يلاحق الشاب فتاش.