فلسطين أون لاين

"سهى جبارة" تروي حكاية الـ67 يومًا وبالأخص "المسلخ"

...
كتبها/ يحيى اليعقوبي


سبعة وستون يومًا بعيدة عن أطفالها الثلاثة، ليست في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بل في سجن مخابرات السلطة الفلسطينية بمدينة أريحا، المعروف لدى عامة الناس بالضفة الغربية بـ "المسلخ".. أمضت منها 27 يومًا خلال الإضراب المتواصل عن الطعام؛ مدة مرت خلالها سهى جبارة (29 عامًا) بأصعب مرحلة في حياتها لم تكن تتوقعها أو تتخيل حدوثها، وأن يأتي اليوم الذي تغيب فيه "قسرًا" عن أطفالها.

وبينما كانت جبارة –أفرجت السلطة عنها في 9 يناير/ كانون الثاني الجاري– تروي تفاصيل اعتقالها، كانت "فلسطين" تحسن الاستماع، لتنقل إليكم ما باحت به من تفاصيل ومواقف وظروف تحقيقات واعتقالات عنونتها بوصفها "كانت معاملة بلا رحمة".

القوة (101) بالبيت

السبت الثالث من نوفمبر/تشرين ثانٍ 2018م، الساعة الثامنة مساءً، كانت قوة أمنية تابعة للسلطة برام الله المعروفة باسم (101) أمام بيت جبارة، وكانت هي في بيتها ترتب ملابس أطفالها وأغراضهم استعدادًا للمدرسة، "يا بتطلع يا بنقتحم البيت وبنطولها".. اخترق هذا الصوت نافذة غرفتها في الطابق الثاني لبيت العائلة في بلدة ترمسعيا شمالي مدينة رام الله، "دخلوا البيت، لم يحترموا لا صغيرا ولا كبيرا" تقول.

تعود بذاكرتها لتلك اللحظة: "لم أتوقع بأي لحظة أن أُعتقل خاصة من جهاز أمن السلطة كونه جهازًا فلسطينيًا، كان الأمر مفاجئًا، وتعرضت أول الأمر لصدمة نفسية أدت لإصابتي بتشنجات عصبية كاملة، خاصة أن الاعتقال جاء دون مذكرة توقيف".

تكمل: "كانت ملابس تلك القوة الأمنية مختلفة (ليست موحدة) وكان بعضهم ملثما، ونقلوني إلى مباحث السلطة برام الله، وهناك عرفوا عن أنفسهم بأنهم من القوة (101). خلال أولى ساعات الاحتجاز أصبت بحالة عصبية، كوني أعاني من تسارع دقات القلب، وفي إثر ذلك نُقلتُ إلى الخدمات الطبية العسكرية، بعد حدوث تشنجات في يدي وقدمي (..) فكان الوضع صعبًا بعد حقني بإبر، وفقدت الوعي (كأنني لست موجودة)".

استيقظت جبارة بمستشفى رام الله. كان الممرضون يتابعون حالتها الصحية المتدهورة وليس الأطباء لتشخيصها. تواصل بنبرة صوت بدا عليها التعب من الإضراب المتواصل عن الطعام: "تفاجأت بدخول أفراد من أمن السلطة للمشفى ورفع الأجهزة الطبية عني وإخراجي منه".

"ماذا أقول؟.. خرجت من المشفى حافية القدمين، مقيدة، متعبة، تسندني شرطيات من أمن السلطة من الجانبين "بعدما أضاعوا حذائي".. هذه البداية الصعبة أعطت مؤشرات لسهى على صعوبة ما ستعيشه لاحقًا.. ترى ما الذي حدث لها بعد ذلك؟

سيارة بيضاء وبيت "غريب"!

الرابع من نوفمبر/ تشرين ثانٍ، نقلت المباحث جبارة بواسطة سيارة بيضاء، "كنت ملقاة على أرضية السيارة أغيب عن الوعي وأستيقظ من شدة التعب، ودخلت بيتًا أو مكانًا غريبًا".

ضابط الأمن يسألها: بتعرفي أنت وين؟

جبارة ترد: بمقر المباحث..

الضابط: لا، أنت بمقر اللجنة الأمنية (مسلخ أريحا)

الساعة الواحدة ليلًا في ذلك اليوم، بدأ التحقيق وسهى مقيدة اليدين ومعصوبة العينين، استمر التحقيق متواصلا حتى السابعة مساء من اليوم التالي، تقول: "كنت أتعرض لتعذيب بالضرب من أيدي المحققين على جسدي، تحديدًا بمناطق الكتف والعظام؛ حتى لا يتركوا آثارًا يحاسبون عليها قانونيًا فيما بعد، فضلًا عن التهديد لي ولعائلتي، وسكب الماء على الوجه، والحرمان من النوم ومن دخول "دورة المياه" رغم وجود عذر شرعي".

لم يكن ما سبق كل الأساليب المستخدمة في التحقيق، تتحدث عن أسلوب التعذيب النفسي: "في سجن اللجنة الأمنية بأريحا كنت أتنقل من غرفة إلى غرفة، يتعمدون إجباري على مشاهدة المعتقلين الجنائيين، أرى معتقلين ممددين على الأرض تسكب عليهم المياه (..) كان الأمر مرعبًا بالنسبة لي، حتى أنني كنت أحلم بالمحققين يركضون خلفي من شدة الرعب".

"دليل البراءة"

على ماذا تركزت التحقيقات؟ ترد جبارة على سؤال "فلسطين" بأن التهمة تمثلت بجمع أموال غير مشروعة ومساعدة أهالي الشهداء والأسرى، قائلة: "رفضت هذه التهمة، فوجهوا لي تهمة التخابر مع الاحتلال".

تسخر من التهمة الأخيرة (التخابر)؛ مشيرة إلى أن الاحتلال قدم لها تبليغًا عام 2012م بالمقابلة عند حاجز "عوفر" ووجهت إليها تهمة "جمع أموال غير مشروعة"، مضيفة: "بعدما خرجت من الحاجز حينها تلقيت اتصالًا من مخابرات السلطة لنفس التهمة الموجهة من الاحتلال، والآن بعد سبع سنوات يأتون لمحاسبتي.. فلماذا لم يحاسبوني حينها؟".

طلب ضباط أمن السلطة من جبارة التوقيع على أوراق دون قراءتها، ورغم أنه قانونيًا يجب أن يحول المعتقل إلى النيابة العامة بعد 48 ساعة من الاعتقال فإنه في حالة اعتقال جبارة حدث العكس، فأحضرت النيابة ممثلة بوكيلها إلى مقر اللجنة الأمنية في أريحا.

وعن ذلك تتابع: "مفترض أن أذهب للمحكمة للعرض على النيابة وليس العكس، كان وكيل النيابة منحازًا للأجهزة الأمنية التي لم تترك لي مجالًا للحديث أمامه، وكان أفرادها موجودين بأسلحتهم الشخصية لحظة وجود وكيل النيابة".

"إذا حكيت أي شيء لأي مؤسسة حقوقية أو لوالدتك حيصير شيء مش صح"، هذا كان جزءًا من تهديدات أفراد الأمن لها، قبل السماح لوالدتها بزيارتها لمدة خمس دقائق.

استمر التحقيق معها والتعذيب متواصلًا حتى منتصف مساء الثلاثاء من أول أسبوع، يحدثها أحد رجال أمن السلطة: "نحن أذكياء ومش حنخلي آثار تعذيب عليك"، وتزيد: "سلمت يومها إلى سجن مخابرات السلطة في أريحا مع سجينات، وفي اليوم التالي مُدِّد اعتقالي 15 يومًا بطلب من وكيل النيابة لاستكمال التحقيق، رغم عدم وجود تحقيق فعليًا".

أصعب ما مرت به جبارة هو البعد عن أبنائها الثلاثة الذين لم تتركهم ليوم واحد طيلة حياتها، ظلت على هذه الحال حتى مُدِّد الاعتقال 15 يومًا أخرى بحجة عدم انتهاء التحقيق، وهكذا فرقت جبارة قسرًا عن أطفالها، "كنت أحب سماع صوتهم ولا أسمح بإحضارهم للسجن خوفًا على مشاعرهم"، تقول.

عزل انفرادي

تضيف متحسرة على واقع حالها: "في جلسة المحاكمة كانت وكيلة النيابة "تلهو" في هاتفها المحمول، طلب فريق الدفاع عني أن تكون الجلسة مفتوحة أمام الناس، لكن القاضي رد عليه: "هالملف مشرف لتحضره كل الناس؟" وحينها بدأت بالإضراب المفتوح عن الطعام لسوء معاملة النيابة والظلم الذي تعرضت له بتمديدات الاعتقال".

تصف ما عاشته داخل سجن مخابرات السلطة بأريحا قائلة: "عشت فيه ظروفًا صعبة، فالطقس بارد ومياه السجن باردة جدًا، كنا نعبئ المياه بدلو لاستخدامها، فرشات أسر السجن مهترئة لدرجة كنت أشعر أنني نائمة على حديد السرير نفسه، وبعد إعلان إضرابي المفتوح عن الطعام عُزلتُ في زنزانة عزلا انفراديا لمدة 19 يومًا".

غرفة صغيرة، ودورة مياه، وفرشة.. هكذا كان شكل الزنزانة، وتردف: "كنت أخرج نصف ساعة إلى ما تسمى "الفورة"، وكان التواصل مع الأهل مقطوعًا، أما مع فريق الدفاع فكان بتشديد أمني، منعوا عني مشط الشعر، وفرشاة الأسنان، أما الاستحمام فكان على مزاجهم، تلقيت تهديدات بالتعرض لي ولأهلي، وسلب حضانتي لأولادي، أحدهم قال لي: "بنخفيك من الدنيا وما حدا بيدرى فيك"، وخلال الإضراب مُدِّد اعتقالها 15 يومًا إضافيًا على ذمة النيابة".

ورغم أن جبارة اعتقلت 67 يومًا، منها 27 يوما متواصلا في الإضراب، فإنها وبعد الإفراج عنها تستعد للوقوف أمام أول جلسة محاكمة في 30 يناير/ كانون الثاني الجاري أمام محكمة الصلح في مدينة أريحا.

وتختم: "لم يكن هناك أي نوع من الرحمة في التعامل معي؛ وأطالب بمحاكمة عادلة، وأثق في عدالة القضاء لإظهار الحق وبراءتي.. لكن مهما فعلوا لن يستطيعوا إعادة حق أولادي الذي كسروه بداخلهم خلال مدة اعتقالي".