الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنَّ الحصار الذي يفرضه العدو على المسلمين يُعَدُّ من التحديات التي واجهت المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو أسلوب خطير يلجأ إليه العدو عندما ينتشر الإسلام وينتصر الإسلاميون، وعندما لا يتمكن العدو من مقابلة الحجة بالحجة، ويهدف بذلك إلى سحق المسلمين أو إنزالهم عند شروطه. ولكن هيهات هيهات أن يتحقق لهم ذلك، لأن المسلمين يستمدون قوتهم من الله تعالى، فهم يتمسكون دائمًا بالصبر والصمود والثبات على الحق.
ولذلك أردت في هذه السلسلة إبراز هذا الأسلوب الخطير الذي يلجأ إليه العدو، وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة هذا الأسلوب الفاشل، بالصبر والثبات والتكاتف ولحمة الصف ووحدته، ما أدى إلى إنهاء الحصار وخروج المسلمين من هذه المحنة أقوياء منتصرين، ازداد عددهم وكَثُرَ مناصروهم.
وسيدور الحديث في هذه السلسلة من المقالات حول تعريف الصبر في اللغة والاصطلاح وبيان أهميته وفوائده ومفهوم الثبات وأهميته وعوامل بقائه وما المراد بالحصار في اللغة والاصطلاح وأنواعه وبيان الروايات الدالة على الحصار والدروس المستنبطة من ذلك.
فالصبر لغة: كما قال ابن فارس في مادة صبر: الصاد والباء والراء أصولٌ ثلاثة: الأول الحبس، والثاني أعالي الشيء، والثالث جنسٌ من الحجارة.
فالأول: الصبر وهو الحبس. يقال: صَبْرتُ نفسي على ذلك الأمر، أي حبستُها. والمصبورة المحبوسة على الموت. وأما الثاني فقالوا: صُبْر كلِّ شيء أعلاه. وأما الأصل الثالث فالصُّبرة من الحجارة: ما اشتدَّ وغلُظَ.
وقال الشيخ عبدالله البُسْتاني: الصَّبْر -بالفتح-: "حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن الشكوى" وصبَر على الأمر يصبر صبرًا: احتمله ولم يجزع. وعرَّف المُناوي الصبر اصطلاحًا: بقوله: "هو قوة مقاومة الأهوال والآلام الحِسِّيَّة والعقلية".
وعرَّفه ابن القيم بقوله: "هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش".
وبيَّن ابنُ القيم حقيقةَ الصبر بقوله: "هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها".
وقيل: "هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب"، وقيل: "الصبر هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة".
ومن خلال ما تقدم يَتَبَيَّن أنَّ الصبرَ خُلق كريم يَحْمِلُ صاحبه على ضبط النَّفْس وتحمُّل الآلام والابتلاءات وتلقِّيها بالرضا والطمأنينة دون سخط أو شكوى.
فالمسلم يواجه المحن والابتلاءات بصدر واسع دون ضيق أو سخط أو شكوى.
للموضوع تتمة.