فلسطين أون لاين

​كبرتُ يا أمي

كبرت رغماً عني، وما زلت أتمسك بأهداب البراءة والقلب الغرير.. وأحنُّ إلى طفولتي وأيامي وإلى نومي بلا همٍّ يؤرقني ولا ألم ينغرس كالسِّكين في جسدي ومن دون تحسُّب وتوجُّس وترقُّب يطرد النَّوم ويمنعه من التسلُّل إلى جفني.

كبرت وما زال الطُّفل داخلي يحلم ويحلِّق ويتمنَّى العودة مرة أخرى إلى حضنك الدافئ.. إلى الدُّمى الصَّامتة التي لا تعرف غير الابتسام والوجه المشرق أبداً.. لا تعرف العبوس، ولا البكاء، ولا الغضب.. مهما فعلت بها أو كيفما حركتها أو حتى قذفتها وحطمتها لحنق ألمَّ بذاك الطفل متقلب المزاج داخلي.

كنت تتمنَّين أنْ أكبر، فأعرف الدُّنيا وتعرفني، وأنخرط في الحياة الخارجية بعيداً عن عشِّنا الدَّافئ، وأفهم بعض ألاعيبها، وأخوض بعضاً من اختباراتها، وأجتاز ما يعترضني من عقباتها دون أن أفشل، وأتحمل ما يواجهني من مسؤولياتها دون أن أخسر التَّحدي..فإذا بي أغوص في أعمق أعماقها وأغرق في تفاصيلها التي لا تنتهي، وأنجح وأتحدى وأجتاز دون تردد.. وأكون عند حُسن ظنّك بي.. فهل أنت راضية الآن يا أمي؟.

كبرتُ يا أمي وخبرتُ معنى الغربة تحرق قلبي وقلبك، وكذا خبرت البرد والجوع دون من يعبأ ببردي وجوعي، وفهمت جيداً معنى مكابدة المرض وحيداً، ومعاركة عقبات الحياة ومشقَّاتها منفرداً دون رفيق يؤنسني ويسندني ويشدّ من أزري ويرأف لحالي..

أدركت كيف يكون إمضاء ساعات طويلة في المعابر والمطارات، والنَّوم على المقاعد المعدنية وفي الممرَّات، انتظاراً لرحلات ستطول وطائرات ستتأخَّر.. وجرَّبت جيداً مدى الإنهاك الذي يرافق السَّفر والقلق الذي يحكم قبضته على النفس حتى لا تربكه المفاجآت وتفوته رحلة الطيران.

كبرت وأعيتني الأيام، وأنهكتني المسؤوليات، وقصفت ظهري الأعباء، وأحزنت قلبي الهموم، وأتعبني البرد وطول الليل.

صرت يا أمي أحب القهوة، وأسهر حتى الصباح لأذاكر للاختبارات، وأصنع طعامي بنفسي، وأرتب ملابسي وكل احتياجاتي، وأمضي أياماً عدة لا أتناول فيها إلا اليسير من اللقيمات.. أصبح الصوت المرتفع يؤذيني، والفوضى تربكني، وإضاعة الوقت بلا طائل تهزني وتتعب روحي، والتخلف عن مواعيد بلا مبرر يكون سبباً كافياً لأقطع علاقاتي وأنهي صداقاتي.

ها أنا ذا قد كبرت يا أمي ووعيت وعلمت ما كنت تتمنين أن أعلم بل أضعاف أضعاف ما تمنيتِ..

أدركت يا أمي أنَّ الدُّنيا صعبة غادرة.. قاسية ظالمة.. تركض الغالبية العظمى من علاقاتها جرياً خلف المصالح الشَّخصية والرَّغبات والأهواء.. وعقلت أنه ليس فيها شيء يا أمي بلا ثمن بلا ديْن بلا ميزان، حتى أبسط الأشياء فيها، لها ضريبة تسدد مسبقاً.

هأنذا قد كبرت وأصبحت طبيباً يا أمي كما تمنيت.. وأصبحت رجلاً كما حلمت.. ولكنني وجدت الدنيا أعقد وأصعب وأقسى مما في يوم قد تصورت.. أندم الآن على أوقات أضعتها لم أعبَّ فيها من معين الطفولة والسذاجة والبراءة والصفاء.. أيام ما زلت أتعشم بشدة بحنانك واهتمامك ودفء عواطفك..