كآبة تسيطر على روحي، وهمٌّ يسكنني.. يوجع نفسي، يقض مضجعي، ويشتت أفكاري ويبعثرها كما تشتت الرياح ذرات الغبار والأتربة.. يجعلني أكره الحياة وما فيها.. ولولا أن الموت ليس هو بخيار متوفر بين أيدينا نختاره بإرادتنا ومتى شئنا.. لتمنيته. ما عدت أرغب بحياة يقطنها وحوش على شكل بشر.. بشر لم يخلقهم الله بأنياب حادة ومخالب قاطعة، بشر هباهم الله عقولاً وذكاءً ولكنهم رجحوا النزعة الحيوانية داخلهم على بشريتهم وإنسانيتهم، حتى غدو كالمفترسات بل أضل وأشقى.. ما عادت الحياة تعني لي شيئاً لأتمسك بها، وما عادت مباهجها تجذبني لأرغب فيها.. لقد زهدت نفسي بعد أن اكتشفت أنها مجرد خدعة كبيرة تخدعنا، وسئمت روحي الظلم المستشري فيها، وجفت عبرات عيني من رؤية ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وأُنهك قلبي من رؤية فجوره وطغيانه واستبداده وقهره.
انظر حولك.. فأينما تنظر، وفي كل مكان في هذا العالم الشقي لا تجد إلا: قتل.. فتك.. تدمير.. سجن.. قمع.. انتهاك.. إذلال.. حصار.. تحقير.. تمييز عنصري.. تشريد.. اغتصاب.. تهجير.. كبت... الخ من سلسلة المسميات والمبررات التي لا حصر لها، والتي تصبُّ في المجرى ذاته وتفيض.. مرادفات بغيضة تلقي بثقلها على نفوسنا فتسحقها وتتركها أشلاء مبعثرة..
فإلى متى يا تُرى سيبقى الحال هكذا؟.
لم أعد أدري ماذا يريد البشر من بعضهم؟ لماذا يتصارعون؟ لماذا يبطش القوي بالضعيف ويوظف كل ما أوتي من ذكاء وفطنة للقضاء عليه وسلب الأمل ونبض الحياة منه؟.
لماذا يبذل صاحب السلطان والجاه والصولجان ما بوسعه للسيطرة على أرزاق العباد وسرقة اللقمة من أفواه الجوعى والفقراء والمعدمين والتضييق عليهم وإفقارهم؟ لماذا لا يهنأ له عيش إلا إذا سحقهم وأذلهم ومنع عنهم كل ما يعينهم على مكابدة العيش ولو استطاع منع الهواء عنهم لما توانى؟.
لماذا ينتهك الكبير حقوق الصغير، ويستقوي كل واحد على الحلقة الأضعف في السلسلة؟ لماذا يهتم كل فرد بأن يملأ معدته وغيره يجوع، ويرتدي أجمل الثياب وأنعمها وغيرة يعرى، ويسكن أجمل البيوت وأوفرها رفاهية وفي ذات الوقت غيره شريد طريد في الشوارع، على الحدود، في عُرض البحر؟.
لماذا تُدمر بلاد واسعة وتُنهب خيراتها وتُنتهك وتُجوع ويُجبر أهلها على الهرب علهم ينجون بحياتهم وأعراضهم وما تبقى فيهم من أمل؟.
لماذا يقتل الأطفال؟ لماذا يشردون ويشتتون عن آبائهم؟ لماذا تُبعدهم الحروب عن مدارسهم كما تباعد المسافات الشاسعة المشرق عن المغرب؟ لماذا تزرع اليأس والقنوت في سويداء قلوبهم؟ لماذا تسلب البسمات من عيونهم؟ والضحكات من وجوههم، وتقلع البراءة من تلك النفوس البريئة؟ ويوضع بدلاً منها الحقد والكره واللامبالاة؟.
لماذا يسخِّر بني البشر عقولهم الفذة وذكائهم وإبداعهم لصنع السلاح وتطوير ما يفتك ببني الإنسان ويبيدهم؟ لماذا يضحِّي أصحاب الأموال بكل المعاني السامية فينحروها على مذبحهم ويقطِّعوها ويحرِّقوها ويذروا رمادهم في قيعان البحار والمحيطات حتى لا يبقى منها أثراً؟.
ماذا تريدون أيها البشر؟ ألم يشبعكم ما تمتلكون؟ ألا يكفيكم سفك الدِّماء؟ ألا يقنعكم ما انتهك من أعراض، وما دُمر من بلاد؟.
اتركونا نعيش بسلام وهدوء.. نبني أوطاننا، نتعلم، نحلم، نحقق أحلامنا، نبتكر، نشعر بإنسانيتنا، ننام بهدوء دون أن نسمع أصوات قنابل ترعبنا ولا صواريخ تهم البيوت فوق رؤوسنا.. كفاكم أيها الجشعون والمارقون والمجرمون والطغاة.. ارحلوا عنا ودعونا نعيش بسلام وأمان وهدوء.
دعونا نعيش كما يحلو لأي إنسان أن يعيش دون خوف أو ذل أو قمع... نتوق لحرية ننطلق فيها.. نحلِّق بفرح في سمائنا.. أم أن الهمَّ والرعب هو قدرنا الذي قدَّرتموه علينا واستبحتم بموجبه حياتنا وسلبتم بمقتضاه مستقبلنا وجردتمونا به من آمالنا وطموحاتنا؟.