فلسطين أون لاين

​14 رصاصة و8 سنوات حكم.. قتلت أحلام الأسيرة "باكير"

...
غزة - يحيى اليعقوبي

بعيدة عن حضن عائلتها ودفء منزلها وحنان والديها؛ تكبر الأسيرة المقدسية مرح باكير في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ستحتفل الشهر القادم بذكرى ميلادها العشرين وحيدة مع قضبان السجون، ورغم مرور ثلاث سنوات وشهرين على اعتقالها لا يزال والداها يرون مرح تلك الطفلة التي خرجت لتقديم امتحاناتها الدراسية ولم تعد منذ تلك اللحظة، بسبب أربع عشرة رصاصة أطلقت من مسدس جندي إسرائيلي على يدها هشمت عظامها، واكتملت الجريمة بحكم بسجنها ثمانية أعوام ونصف الأعوام.

مضت تلك السنوات على اعتقال مرح ولا تزال موجودة في كل دقيقة بقلب والديها، لا يتخلفون عن زيارتها والاطمئنان عليها لو للحظة واحدة في كل مرة يسمح الاحتلال لهم بزيارتها، وفي كل غرفة يضعون صورة مرح، تذكرهم بها، تخبرهم أنها حاضرة، ينتظرون مرور الأعوام لتعود "فاكهة البيت ومرحه مرة أخرى" لكن وإن مرت الأعوام ستعود مرح شابة تبلغ من العمر 25 عامًا، قتل السجن كل أحلامها وطموحها.

"أنا أمام السجان بظهر إني قوية؛ لكن بداخلي هناك شوق كبير للحرية وإكمال دراستي وحياتي وأحلامي" هذا ما تحدّث به مرح به والدتها بعد انتهاء كل زيارة، وعيونها تبرق الدموع تتمنى لو طالت المدة حتى وإن كانت من خلف الزجاج العازل، فبرؤية والديها تنسى مرارة السجن.

بداية القصة

الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين أول 2015م، الوضع متوتر بمدينة القدس بعد ارتقاء عدة شهداء واندلاع انتفاضة القدس، مع إطلالة شمس يوم جديد استيقظت مرح، كانت يومها لم تتجاوز السابع عشرة ربيعًا، ترجع والدتها (سوسن باكير) بحديثها مع صحيفة "فلسطين" إلى ما قبل ثلاثة أعوام فهو يوم محفور في تلابيب ذاكرتها: "خرجت مرح من البيت الساعة السادسة صباحًا، بعد مذاكرة دروسها استعدادًا لتقديم امتحانين بمدرستها".

مرح التي تسكن في منطقة (بيت حنينا) شمال القدس المحتلة، كانت في بداية الفصل الدراسي الأول للثانوية العامة "التوجيهي"، إذ استطاعت منذ طفولتها سبق أقرانها بعام دراسي، ومع كل عام يكبر حلمها بدراسة المحاماة والدفاع عن حقوق أبناء شعبها.

عقارب الساعة تحطّ رحالها عند الواحدة والنصف ظهرًا، هاتف والدة مرح يرن، لم ترتبك من الاتصال ولم يهتزّ قلبها، فالأمور عادية ببيتها رغم أن الوضع في الخارج كان متوترًا لكن كانت تنتظر عودة ابنتها بفارغ الصبر، "ولا مرة كنا نتوقع أن يصل ما يحدث بالخارج لبيتنا.. فبعدما كنا نتابع الأخبار أصبحنا نحن الخبر للناس".

ردت على المتصل..

- خالتو مرح انطخت.

ضحكت والدة مرح..

- مش هيك الواحد بمزح.. شوفي مزحة تانية

كان الاتصال من صديقة مرح في وقت عودتها، انقطع الاتصال بعد بكاء صديقة ابنتها

هنا بدأت والدة مرح تأخذ الأمر بجدية، وبدأت الهواجس الداخلية تسيطر على تفكيرها أصبحت في حيرة من أمرها ترسم بعضًا من علامات الاستفهام والتعجب، تتردد في وضع نقطة في نهاية التفكير خشية أن تكون هي نقطة الفراق والوداع.

مرت دقائق صعبة؛ الأم في حالة ترقب، في زحمة الاحتمالات والتساؤلات، مع التوتر انشغلت به أعضاؤها كافة، صاحبه غليان درجة الاضطراب، لم يدم صمت الأم طويلاً (تكاد نبضات قلبها تتوقف من شدة خشيتها على ابنتها)، عاودت الاتصال لكن هذه المرة بزوجها فكان بعمله في مدينة بيت لحم، ويحتاج إلى عدة ساعات كي يصلها، فلجأت إلى جارها، لا تنسَ تلك الدقائق: "اصطحبني إلى المشفى كنت أعتقد أنها تعرضت للإعدام".

صورة على الإنترنت

لا يزال قلبها يغلي من الخوف على ابنتها، فتحت شبكة الإنترنت على هاتفها المحمول لعلها تجد صورة تطمئنها، دخلت إلى صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فتفاجأت بصورة فتاة ممددة على الأرض تنزف الدماء من جسدها، ترتدي جاكيت بخطوط عريضة سوداء ورمادية، وحذاء بنيًّا، لم تجهل التفاصيل عرفت أنها ابنتها، واعتقدت أنها شهيدة.

سرد الحكاية لم يتوقف، يكمل والد مرح جودت باكير روايته أن ابنته تعرضت لمحاولة إعدام لمجرد أن شك جندي إسرائيلي بها، وهي خارجة من المدرسة، فأطلق عليها 14 رصاصة من مسدسه.

طفلة تركت تنزف لساعة ونصف العام، وجنود الاحتلال من حولها يشاهدونها دون محاولة إسعافها، بالفيديوهات التي نشرت عن تلك الحادثة تظهر مرح وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا تنظر لجموع المستوطنين وجنود الاحتلال حولها يرقبون نزيفها، حتى كاد دمها يتصفى من جسدها، لولا أن شاء الله أن تبقى حية.

مع النزيف، أغمي على مرح، يكمل والدها: "استدعتنا مخابرات الاحتلال للتحقيق معنا، وكانت مرح بمشفى هداسا بالقدس، كانوا يستعدون لإجراء عملية بيدها، وهناك جرى تحويلها إلى مستشفى مركزي (هداسا عين كارم)".

مخابرات الاحتلال تطوق منزل باكير بمدينة القدس بعد عدة أيام على الحادثة، شعرت والدة مرح أن باب البيت سيخلع لشدة الطرق، بمجرد أن فتحت لهم دخلت قوات كبيرة البيت، سأل ضابط الاحتلال عن غرفة مرح، أخبرته والدتها أن مرح واخوتها ينامون بغرفة واحدة، تضايق وانزعج الضابط، "من وين أجيبلك غرفة هدا وضعنا" بها ردت عليه.

(الضابط) يسأل والدة مرح: كيف وضع ابنتك؟

(الأم) أغضبها سؤاله: هو انتم سامحين النا نزورها عشان نعرف وضعها كيف؟

بشتى الطرق القانونية، حاول الأبوان إصدار أمر من محاكم الاحتلال بالسماح لهم بزيارة ابنتهم، تحقق ذلك بعد عشرة أيام، كان مشهد لقاء الوالدين بابنتهم المصابة بالمشفى اشبه بمشهد تمثيلي، مرح وكأنها بزنزانة وليست بمشفى، مكبلة اليدين والقدمين على سرير المشفى، شرطة الاحتلال تحرس الغرفة، وترافق والديها اللذين منعتهما من الاقتراب منها أو احتضانها، كان الحديث بين الوالدين وابنتهم بالعينين فقط، فالعيون مرآة تعكس ما يجول بالقلب حينما تظهر الحزن الدفين، "لم نستطع احتضانها أو حتى لمس جسدها (..) منعنا من ذلك"، قال والدها.

مكبلة على سرير المشفى

عشرون يومًا أمضتها مرح بالمشفى، مكبلة اليدين والقدمين، يرافقها أربعة حراس من جنود الاحتلال، تعرضت لألفاظ وشتم بأقبح الكلمات والعبارات.

والدها لا يزال يذكر تلك المحطة الأليمة: "سببت لها تلك الألفاظ انهيارًا عصبيًّا نتيجة ألفاظ جنود الاحتلال البذيئة، فامتنعت عن الأكل والشرب لخمسة أيام حتى بدأ الشعر الأبيض يظهر على رأسها من شدة ما تعرضت له من صنوف العذاب أولها البعد عن أسرتها، كانوا يسمحون لها بقضاء حاجتها بعد التوسل إليهم، وكانت لا تستطيع التحرك بسبب إصابتها".

بعد وقت عصيب في المشفى، توقع الوالدان الإفراج عن ابنتهما الطفلة لاستكمال العلاج في البيت بعد تعرضها لتهشم العظام نتيجة 14 رصاصة تركزت بيدها اليسرى، وأجريت لها عمليات وصل عظام بواسطة مثبتات (بلاتين)، لكن الاحتلال حولها إلى سجن "عسقلان"، وهناك مكثت 15 يومًا، تعاني ألم إصابتها وبعدها عن والدها.

مرح الطفلة المدللة أمضت ظروف اعتقال لم تعتد عليها في بيت أهلها، لم تتوقع يومًا أن تكون أسيرة بين قضبان حديدية تمنعها من إكمال حلمها الدراسي وأن تصبح محامية.

سجن الرملة كان المحطة الثانية لمرح، وهناك استطاع والداها وإخوتها الثلاثة زيارتها، يقول والدها: "زرناها لأول مرة بعد مرور شهر على اعتقالها، بصعوبة حصلنا على تصريح الزيارة التي كانت من خلف الزجاج العازل، ولم توافق إدارة السجون على طلب مرح احتضان أختها الصغيرة المتعلقة بها".

ومن الرملة انتقلت مرح لسجن هشارون، هناك تحدت إصابتها كما تحدت الاحتلال، اجتهدت بالمذاكرة وقدمت امتحانات الثانوية العامة ونجحت، لكن إدارة سجون الاحتلال منعتها من إكمال دراستها الجامعية بحجة أنه لا يوجد أسيرات ذوو كفاءة يتابعنها كما هو الحال بالنسبة لقسم الأسرى الرجال.

الحكم الصادم

وهكذا قتل السجن حلم الفتاة المقدسية بدراسة المحاماة، لكنها لا تزال مصرة على دراستها، فزاد هذا الإصرار بعد ثلاث سنوات أمضتها، تتحدى السجن بقراءة الكتب وصقل شخصيتها داخل الأسر.

أطل شهر يناير/ كانون ثاني 2017م وهو يحمل لوالديْ مرح خبرًا صادمًا، لم يتوقعانه ففيه أصدرت محاكم الاحتلال حكمًا على مرح بالسجن لمدة ثمانية أعوام ونصف العام، يعلق والدها على الحكم بالقول: إن "الحكم جائر وظالم ومجرم وانتقامي، وهذه الأحكام بحق ابنته وغيرها من الأسرى أصدرت في وقت كانت محاكم الاحتلال تصدر أحكامًا لا تتناسب مع القضايا المعروضة حتى بناء على القانون الإسرائيلي".

الحكم بالنسبة لوالد مرح هو للتغطية على جريمة الجندي الذي أطلق أربع عشرة رصاصة على ابنته، فكل الاتهامات الإسرائيلية التي وجهتها المحاكم إليها بمحاولة تنفيذ عملية طعن، باطلة "فكيف لحكم يمكن أن يبنى على مجرد شك جندي بفتاة؟ وتركوها على الأرض تنزف بإجرام لا يراعي حقوق الإنسان بالعلاج"، قال والدها.

كاميرات معطلة

(والد مرح) لم ينتهِ بعد: "كانت القضية جاهزة بالنسبة للاحتلال، حتى أننا طلبنا تصوير كاميرات الفيديو بالمكان فادعت قوات الاحتلال أنها معطلة مما يدلل على الجريمة التي ارتكبها الجندي الإسرائيلي".

تستخف والدتها بادعاءات محاكم الاحتلال أن الكاميرات معطلة، خاصة أن منطقة الحادثة تعد تجمعًا أمنيًا كبيرًا لشرطة الاحتلال والقيادة القطرية لشرطة الاحتلال بمدينة القدس، ومليئة بالكاميرات.

والدة الأسيرة تتساءل: "كيف لكل هذه الكاميرات أن تتعطل دفعة واحدة أم أن هناك من لا يريد إظهار حقيقة أن ابنتي تعرضت لجريمة بشعة وتركت تنزف لساعة ونصف الساعة".

سجن الدامون، هي محطة مرح الأخيرة في السجن، ففيه لا تزال تتجرع مرارة البعد عن أهلها، وحرمت من إكمال مرحلة طفولتها، تواصل والدتها، أن كل اهتمامات ابنتها كانت في مشاهدة التلفاز والمسلسلات وقراءة القصص والروايات، والأشغال اليدوية والطبخ، وكانت منذ بداية الفصل مجتهدة تريد الحصول على معدل عالٍ في "الفرع الأدبي".

مرت أعوام الأسر ولا تزال مرح تعاني من البلاتين، صوت والدتها اكتسى بالحزن: "إلى اليوم لا تستطيع مرح تحريك يدها أكثر من ساعة، أجهزة تثبيت العظام "بلاتين" تكون باردة تنخر عظامها في الشتاء، وفي الصيف مثل النار، حاولنا التواصل بشتى الطرق والضغط على الاحتلال لزراعة عضل لها، لكن الاحتلال المعروف بسياسة الإهمال الطبي رفض الطلب".