سورة النحل من السور العجيبة، من يقرأها يستشعر أمرين بكل وضوح:
الأول: عظيم نعمة الله وعظيم جحود الإنسان.
عظم المنة الإلهية على البشر في كل شيء حولهم، وبالمقابل تقابل عظم المنة بعظم الجحود الإنساني، فالسورة بمجملها يشير إلى مدلولها هذا الحديث القدسي، يقول الله سبحانه وتعالى: (أنا والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أحوج الأشياء إليّ).
السورة بدأت بقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم بعد ذلك مباشرة بدأت تعدّد نعم إنزال الوحي وخلق السموات والأرض والإنسان ونعمة الأنعام التي فيها دفع ومنافع ومآكل وزينة، ثم نعمة إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من إنبات، ونعمة تسخير الأفلاك العلوية (الشمس والقمر والنجوم) لخدمة الإنسان، ثم نعمة تسخير البحر وكائناته وكنوزه للإنسان وبعد ذلك جاءت الآيات للإشارة لأمر عظيم (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{17} وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) هنا الخالق هو الله ويقابل بالشرك وعبادة غيره، ثم بينت الآيات أن نعم الله فوق أن تحصى، ثم بعد تقرير التوحيد وخطورة الشرك تأتي الآيات لتذكّر مرة أخرى بالنعمة (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ{53} ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) ثم ترجع الآيات مرة أخرى للتذكير بنعم الله من الآية (64- 81) وأكثر الآيات تبدأ بكلمة (والله) ثم تعدد النعم وتعالج ظاهرة الشرك، ثم بعد ذكر كثير من النعم تأتي الآية (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ{83}) إنها نفس الفكرة التي تدور حولها السورة (أخلق ويعبد غيري أرزق ويشكر سواي) ثم يتم معالجة موضوع الشرك ويرجع التأكيد على موضوع النعمة من جديد (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {114}) ثم تذكر السورة بإبراهيم بوصفه (شاكراً لأنعمه).
إذا الموضوع الحيوي الذي تدور عليه السورة من أولها إلى آخرها هو تعداد نعم الله والتذكير بها في ظل جحود إنساني ، بل إضافة للجحود الإنساني كان هناك أمر آخر هو الأمر الثاني المحوري .
الأمر الثاني: رافق الجحود حالة مكر قوية تقابل بالأمر الإلهي.
وهذا الأمر استدعى التذكير بقرب أمر الله في بداية السورة بمعنى أن قوى الظلام في الأرض ومكرهم محاط بأمر عظيم منهم قد أتى وهو في طور المباغتة في كل لحظة.. فبداية السورة لها علاقة مباشرة بكل الجهود الظلامية في الأرض وبما تظنه أنها تمكنت وهيمنت على كل شيء.
ولتقرير الأمر جاءت الإشارة في وسط السورة إلى جانبين من جوانب التعامل مع المكر، يقول الله سبحانه وتعالى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ{26}) إذا أهل المكر دائماً يتعرضون لضربة في القواعد تنهي كل بنائهم من صاحب القوة العظمة وهذه سنة الله الماضية إلى قيام الساعة.. هذه الآية تذكر بسنة ماضية وقعت في الماضي في حق الماكرين.
ثم تأتي الآيات للإشارة إلى سنة مستقبلية تفصيلية لضربة في القواعد أمن منها أهل المكر، يقول الله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ{45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ{46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ{47}).
هذه الآية تحكي عن أشكال كثيرة من العذاب قد يصيب أهل المكر في كل لحظة فهم يشعرون أنهم بمأمن من صاحب القوة العظمى وجاءت هذه الآيات لتذكرهم بأنهم ليسوا في مأمن وكل الخيارات السابقة واردة في حقهم في كل لحظة من حياتهم.
ثم تختم السورة مع صاحب الرسالة لتطالبه بالصبر لأن المعية العليا هي معه ومع كل محسن متقٍ.. وفي ثنايا الآيات يأتي التذكير بالمكر (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ{127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ{128}).
وبعد المكر والصبر عليه جاءت الإسراء لصاحب الرسالة الأول ... وبعد المكر العالمي في عصرنا جاءت بشارة النصر في سورة الإسراء في وعد الآخرة (وليتبروا ما علو تتبيراً).
سورة النحل تحمل سراً عظيماً لم تستوعبه هذه الكلمات القاصرة خاصة أنه في وسطها كانت هذه الآية العظيمة (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {33}) إنه نفس الأمر الذي بدأت به السورة وهو نفس الأمر الذي أشار إليه النبي عليه السلام بقوله (حتى يأتي أمر الله) في بعض علامات الساعة، ويقولون متى هو.. فقل انتظروا إنا منتظرون.