فلسطين أون لاين

​الحلقة الرابعة

حب نادر تسلل لـ"زنازين العزل الانفرادي" وتخطى 48 مؤبدًا

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

هي قصة حب نادرة لم تكتب في الروايات والأساطير، فكتبت فصولها كاملة داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، تسلل الحب فيها إلى قلب زنازين العزل الانفرادي هناك حيث كل شيء ممنوع، حتى الصوت فيها يبقى حبيس النفس بين أسير أمضى 15 عامًا من سنوات أسره في تلك الزنازين، وخطيبته التي لا تزال تنتظر رؤيته منذ ثماني سنوات ولو مرة واحدة، بكل أمل وحب وترقب لموعد تحرره وتنفسه عبق الحرية.

نتحدث عن قصة خطوبة المتأمل فيها يدرك أن فكرة ارتباط فتاة بأسير محكوم 48 مؤبدًا مستحيلة التحقق أو ضربًا من الخيال والوهم كون الكثير من الأسرى انتقلوا من مقابر الأحياء (السجون) إلى مقابر الأرقام تكمل رفاتهم تلك الأحكام التي لم يشهدها التاريخ البشري، لكن المستحيل يمكن أن يكون ممكنًا ويصبح الخيال واقعًا، بهذا القناعة تتشبث غفران زامل (32 عامًا) بحبل الأمل الذي يشرق في قلبها كل فجر يوم جديد على أمل أن تعيش مع خطيبها الأسير الفلسطيني حسن سلامة الذي أمضى 23 عامًا في سجون الاحتلال تحت سقف واحد.

والأسير حسن سلامة، معتقل منذ عام 1996، وحكم عليه بالسجن 48 مؤبدًا، و33 سنة و6 أشهر، وخلال 2018م أعيد للتحقيق مرة أخرى على خلفية قضية جديدة من داخل السجن وبناء عليها حكم بالسجن 8 أشهر إضافية تضاف إلى حكمه السابق.

المستحيل ممكن

فكرة ارتباط غفران بحسن قديمة، الغريب فيها أنه كيف أصبح المستحيل ممكنًا "حينما اغتال الاحتلال مهندس القسام يحيى عياش ولما بدأت عمليات الثأر المقدس له، حتى تكشفت الأمور أن حسن وراءها، وكنت أراه يبتسم بقاعة المحكمة وكيف يواجه حكم الموت بالابتسامة، كنت حريصة على قراءة كل شيء، وكنت أحمل صورته دائمًا، وبقي الحلم بداخلي وأعلم أنه مستحيل كونه من غزة وأنا من الضفة وكل الظروف كانت صعبة".

لكن مضت الأيام والسنوات وتهيأت كل الظروف، ليعتقل الاحتلال غفران عام 2009م بتهمة العمل بجريدة فلسطين، وهناك تعرفت إلى الأسيرة المحررة أحلام التميمي، واعترفت لها بحبها للأسير سلامة وبفكرة الارتباط فيه، وتواصل: "أرسلت أحلام رسالة لحسن وأخبرته بالفكرة".

كانت أحلام عضوة في الهيئة القيادية العليا للأسرى وتهتم بشؤون المعزولين، (كان اسم حسن مدرجًا في صفقة التبادل التي جرت بين المقاومة والاحتلال عام 2011م، وكان يتوقع الإفراج عنه خلالها)، فتوقع أن تكون رسالة أحلام بهذا الشأن، لكن مضمون رسالتها كان مخالفًا لتوقعاته بأن تختار شريكة حياته، وهنا توقع أن ما تقصده سيتم بعد تحرره من السجن.

مر شهران وبعثت أحلام –التي عدت رد حسن على الرسالة الأولى موافقة- رسالة ثانية تخبره عن أسيرة "وهبت نفسها لك ومرتبطة بك منذ تلك العمليات التي نفذتها، وطلبت منه في رسالتها أن يرسل لهذه الفتاة رسالة"، في البداية كان موقفه الرفض، "لا يريد ظلم الفتاة فوضعه غير مضمون ومحكوم بالمؤبد ومحروم من كل شيء"، رغم تأثره بهذه التضحية والموقف البطولي.

توالت زيارات المحامين والرسائل من أحلام، حتى وصلته رسالة من غفران تشرح له عن فلسفتها عن هذا الارتباط وتعطيه درسًا في التضحية وعن دور المرأة وعن واجبها الذي لا يقل عن الرجل، اندهش حسن من هذا المنطق وأعجب بها وتمنى من كل قلبه أن تكون شريكة حياته، ووجد نفسه يتنازل قليلًا بأنه لا مانع من الارتباط.

واستمر تبادل النقاش حول الارتباط والخطوبة بالرسائل المكتوبة، في البداية عارض أهلها، والسبب "كيف ستعيش في غزة بعيدة عنهم؟"، وأهل حسن عدوا الأمر ضربًا من الجنون حتى أن والدته اعتقدت أن مرحلة العزل الانفرادي أثرت فيه، لكن إرادة الحب والقدر انتصرت وجرت الخطبة في 4 نوفمبر 2010م.

لكنها جرت في أحلك الظروف فحسن كان يمكث في زنازين العزل الانفرادي ومحروم من التواصل مع العالم الخارجي، وكانت الخطبة بمنزلة رسالة قوية لإدارة السجن بأنه رغم نيتكم بقتل حسن إلا أنه من بين قوانينكم الجائرة انتزع حقه في الحياة.

الشيء الصعب هنا هو أن العقد تم دون علم سابق من حسن، فلم يكن حينها قد تقررت زيارات محامين له، وعُقِد كتاب النكاح في المحكمة الشرعية في نابلس، وأبلغ حسن عن طريق أثير الإذاعات التي تصل إلى زنزانته الانفرادية وكان في ذاك الوقت يخضع لتحقيق من المخابرات الأمريكية (FBI).

الرسالة والمكالمة الأولى

"بعزيزتي غفران" بهذا عنون حسن رسالته الأولى وكان لها أثرها الخاص على قلب غفران، التي لا تنسى رسالتها الأولى له حينما حدثته عن نفسها وعن حقها في أن تشاركه المقاومة والتضحية والتي تركت الأثر الكبير في نفسه وكانت سببًا في إبداء موافقته.

خروج حسن من زنازين العزل الانفرادي في عام 2012 وكان قد مضى عامان على خطبتهما، من داخل السجن تمكن من الاتصال بها للمرة الأولى، وهي أول مرة تسمع فيها صوت حسن وتحدثه خلال مكالمة هاتفية بينهما، دخلت منها إلى قلبه وتحسست جوانبه العاطفية، وأدركت ما يملكه من إنسانية وحنان وطيبة قلب كبيرة.

تحدِّي القضبان والعزل الانفرادي، شعار رفعه الخطيبان فاستطاعا التواصل في بداية الخطبة، فتواصلا عن طريق الرسائل إما عن طريق الصليب الأحمر أو البريد.. "تجاوزت رسائلنا خمسين أو ستين صفحة، لأنها كانت بمنزلة الحياة التي نتنفسها ونعيشها ونتواصل بها".

اتصال وثلاث ورود

ذات يوم بينما كانت تحتفل غفران وحيدة بذكرى ميلادها، فإذا بهاتفها يرن، وكانت المفاجأة أن خطيبها يتصل بها عن طريق أسير مدني موجود بقسم العزل: "حينما رددت على الاتصال، كنت أسمع صدى صوت حسن من زنزانته، مثّل لي شيئًا كبيرًا رغم أنه معذور لكنه استطاع كسر كل القوانين".

الهواتف المهربة كانت وسيلة غفران وحسن للتواصل بعد خروجه من زنازين العزل الانفرادي، على الرغم من إجراءات السجن المشددة التي تمنع التواصل الهاتفي، وتردف: "حتى اليوم ما زلنا نأمل أن يجود علينا الزمن برؤية بعضنا بعضًا ولو دقائق معدودة".

مواقف كثيرة صنعها الأسير معبرًا عن حبه لخطيبته تنتقي غفران أحدها؛ في إحدى المرات تدخل غفران قاعة المحاضرة بجامعتها، يسألها المحاضر أمام الطلبة وبجانبها صديقتها: "هل عندك مناسبة اليوم؟"، استغربت من سؤاله فردت عليه: "اليوم ذكرى خطبتي بحسن"، فقدم لها المحاضر ثلاث ورود حمراء خرجت من الأسر وكانت من حسن بمناسبة مرور ثلاثة أعوام على خطبتهما، وقال لها المحاضر: "هذه الورود من خطيبك".

وما يزال حسن وغفران يتحديان الواقع المفروض عليهما بسبب البعد والحرمان، تواصل: "استطعنا رغم هذا الواقع المؤلم أن ننتزع سعادتنا ونتواصل ونؤسس لحياتنا الخاصة بالرغم من كل ممارساتهم الهمجية اللاإنسانية".

لكن ماذا عن 48 مؤبدًا؟ لا تعني هذه الأحكام لغفران شيئًا قائلة: "التضحية التي أبذلها بانتظار حسن والتي مضى حتى اليوم على خطوبتنا 8 سنوات متواصلة أبذلها برضا تام، فحسن يستحق هذا الانتظار ويستحق هذه التضحية فأنا شريكة لمعاناته وإن كانت تضحيته في سجنه فتضحيتي بانتظاره أيضًا".

ماذا تمثل لك الأعمار وسنوات الأسر وهي تمضي؟ لم تخفِ بإجابتها: "لم أفكر بالأمر، دائمًا أفكر فقط أن الله الذي سخر كل هذه الأسباب لنرتبط، قادر على إعطائنا فوق مستوى العمر وهذا التفكير، مطلقًا لست متخوفة من العمر"، ومنذ عامين لم تصل لغفران صورة جديدة للأسير بسبب مماطلة إدارة سجن "ريمون"، وتستذكر أنه مر على الأسير خمس سنوات حينما خطبته وهو ممنوع من التصوير، "الارتباط بيني وبينه روحي أكبر من أن تعوقه هيئة أو شكل" تقول.

أكثر من ثمانية أعوام مضت ولم تتمكن غفران من زيارة حسن لمرة واحدة، وفي كل مرة تطلب فيها تصريحًا للزيارة يقابل بالرفض والمنع الأمني المشدد؛ "رفعت قضية عبر المحكمة الإسرائيلية لتحصيل هذا الحق إلا أن المحكمة أيضًا رفضت الطلب".

محطات الأسر

22 عاما أمضاها الأسير في سجون الاحتلال مرت بمحطات كثيرة، مثلت المحطة الأولى بعد الاعتقال عام 1996م، وهي التحقيق الذي مكث فيه 6 أشهر فأمضى بدايات اعتقاله في مرحلة التحقيق في المستشفى بسبب إصابته التي تعرض لها لحظة الاعتقال.. تقول خطيبته: "خلال هذه المرحلة تعرض لأصناف التعذيب الكثيرة واستغلال إصابته للضغط عليه وتعذيبه".

أما المحطة الثانية فكانت العزل الانفرادي الذي استمر على مرحلتين، وأمضى ما يقارب 15 عامًا في العزل، المرحلة الأولى كانت ما بين عامي (1996 -2002) أما المرحلة الثانية فكانت بين (2003-2012) وهذه المحطة حياة أشبه بالموت منها للحياة فكان يسميها حسن حياة البرزخ ويعنون رسائله بأنها خرجت من مقابر الأحياء.

المحطة الثالثة؛ الإضراب عن الطعام، فخاض الأسير جميع الإضرابات التي خاضتها الحركة الأسيرة طوال اعتقاله إضافة للإضرابات الفردية والجماعية التي كان يخوضها في مرحلة العزل لتحسين ظروف حياته والتي كانت تستمر لأكثر من 20 يومًا.

من أكثر الأشياء المؤثرة في قصة الأسير سلامة، هو عدم خروجه في صفقة وفاء الأحرار عام2011م رغم التأكيد المتواصل للإفراج عنه، وكان حينها يخوض إضرابًا عن الطعام مع أسرى الجبهة الشعبية لمدة 15 يومًا رفضًا لسياسة العزل الانفرادي وعلم عن الصفقة من التلفاز ولم يرسل لهم أحد.