جاءني الاتصال الأول من ضابط إسرائيلي، قال: إنه منسق الشئون المدنية في الجيش الإسرائيلي، لقد سألني باللغة العربية عن وجه المسيرة التي تضم عشرات سيارات البلدية.
تعمدت أن أجيب عن سؤال الضابط باللغة العبرية، وقلت له: ذاهبون بما تبقى في سيارات البلديات من وقود للاعتصام أمام معبر كرم أبو سالم، لقد أجبرنا الحصار على وقف خدمات البلديات، وقد طفحت الشوارع بالنفايات، وغرقت الأحياء بالصرف الصحي.
لم أنزعج كثيرًا لمعرفة الضابط الإسرائيلي بأننا ذاهبون بسيارات البلدية للاحتجاج على حصار غزة أمام مواقع الجيش الإسرائيلي، ولكن الذي أزعجني هو تحذير الضابط الإسرائيلي من الاقتراب كثيرًا من الحدود، ومن خطورة استفزاز الجيش، وأنني سأتحمل المسئولية عن كل تطور.
كان ذلك مطلع عام 2008، حين طلبت من الضابط الإسرائيلي بأن يبلغ قيادة الجيش بأننا ذاهبون في مسيرة سلمية، ولا نحمل سلاحًا، وهدف مسيرتنا إيصال رسالة بمطالبنا الإنسانية إلى المجتمع الدولي، وإلى المسئولين الإسرائيليين الذين يحاصرون قطاع غزة، وأنني أشرف على تنظيم المسيرة بمشاركة كل من رئيس بلدية رفح المهندس عيسى النشار، والنائب في المجلس التشريعي المهندس جمال الخضري، رئيس اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار، ولا نطالب بأكثر من فك الحصار، وإدخال الوقود اللازم لخدمات البلديات.
لقد جاءني الاتصال الثاني من مدير عام وزارة الحكم المحلي في رام الله، حيث طالبني المسئول الفلسطيني بالتوقف عن مواصلة المسيرة، وحذرني من خطورة المطالبة بفك الحصار، ومن سلبيات الزج بموظفي البلدية ومعداتها في الخلافات السياسية، ومن شر هذا الفعل الذي قد يؤثر على القرار الإسرائيلي، ويخفف الحصار عن حركة حماس الانقلابية.
أكدت للمسئول في الحكم المحلي بأن البلدية تقف على الحياد من كل التنظيمات، وأن عمل البلدية لا علاقة له بالسياسة، ولا يحق لرئيس البلدية أن يعبر عن رأيه السياسي بالأحداث سلبًا أو إيجابًا؛ طالما كان على رأس عمله، وأننا في بلديات غزة نشكو من قلة الوقود، وتراكم النفايات في الشوارع، ومن الوضع الإنساني الذي لا يطاق.
ولكن مدير عام الوزارة لم يبدِ تفهمًا، وحاول أن يصدر لي أمرًا بالتراجع، فما كان مني إلا أن أقسو عليه بالرد القاطع، لقد رفعت صوتي، وأنهيت معه المكالمة بكل تحدٍ وعنف.
وكانت المفاجأة أن جاءني الاتصال الثالث من وزير الحكم المحلي في ذلك الوقت السيد زياد البندك، الذي طالبني بالتوقف فورًا، وعدم مواصلة المسيرة، وأن هذا السلوك لا يخدم توجهات حكومة رام الله، ويتعارض مع السياسة العامة التي تهدف إلى تضييق الحصار على حكومة حماس في قطاع غزة، حتى تنفجر الثورة الشعبية في وجه الانقلابين.
أكدت للوزير أن البلديات خارج إطار المناكفة السياسية، وأن البلديات تقدم للمواطنين الخدمات، ولا تميز البلدية في الجباية بين المنتمي لفتح أو المنتمي لحماس، البلدية تقف على الحياد.
ذلك الرد لم يعجب وزير الحكم المحلي، الذي هدد وتوعد، وأغلظ في التحذير، ولكن قبل أن يغلق الهاتف، قلت له: إنني لا أتبع وزير الحكم المحلي في الضفة زياد البندك، ولا أتبع وزير الحكم المحلي في غزة زياد الظاظا، أنا أقوم بواجبي الوطني.
واصلنا المسيرة حتى أقرب نقطة من حدود قطاع غزة مع الإسرائيليين، وأوصلنا رسالتنا الاحتجاجية، وغادرنا مكان الخطر دون أن أغادر حالة الذهول التي عصفت بكل كياني، وأنا أتساءل مع نفسي: لماذا يحدث هذا؟ لماذا يتعمدون محاصرة غزة؟ ما السر في هذا التوافق بين وزير الحكم المحلي زياد البندك ومنسق الشئون المدنية في الجيش الإسرائيلي؟ وهل وصل التعاون الأمني والميداني بين الضباط الإسرائيليين والمسئولين الفلسطينيين إلى هذا الحد؟
أربع سنوات وأنا في حيرة، وأفتش عن السر، حتى جاء يوم 29/7/ 2012 فانكشف المستور، ففي ذلك اليوم قام وزير الحكم المحلي زياد البندك بزيارة المعسكر النازي في (أوشفيتز) جنوب بولندا، إنها المرة الأولى التي يزور فيها مسؤول فلسطيني موقعًا يرمز إلى المحرقة اليهودية، لقد وضع الوزير زياد البندك مستشار الرئيس محمود عباس لشئون الأديان باقة ورد على جدار الموت المخصص لليهود، وذرف دمعة حزن، قبل أن يعود إلى فلسطين، ليدلي بتصريحات نارية عن التمسك بالثوابت الوطنية، وأن العهد هو العهد، والقسم هو القسم.
فما أوثق العلاقة بين حصار غزة وبين الدموع المنهمرة في نهر الأحزان اليهودي!