تعلمنا في التحليل السياسي أن "المعلومة الصحيحة تمنحك تحليلًا سليمًا"، وعلمتنا الصحافة أن "الخبر مقدس والتعليق حر"، وطالما أننا افتقدنا المعلومة الحقيقية والخبر الدقيق، سنبقى بدائرة التخمينات والتكهنات، نأخذ بها، أو نتركها.
مناسبة هذه المقدمة الأكاديمية ما كشفته إسرائيل في الساعات الأخيرة حول سبب موافقتها على وقف إطلاق النار مع المقاومة بغزة خلال التصعيد الأخير أواسط نوفمبر، ومنذ ذلك الوقت إلى ما قبل بدء عملية درع الشمال ضد أنفاق حزب الله، ونحن نعيش حالة من سيولة التحليلات والتفسيرات لمعرفة قبول إسرائيل لتلقي الصفعة القاسية من غزة، وطي صفحة العدوان، وكأن شيئًا لم يكن.
الساعات الأخيرة شهدت إعلان إسرائيل بصورة شبه رسمية عن المداولات الحكومية: السياسية والعسكرية، التي تزامنت مع التصعيد الأخير بغزة، حيث اتخذ الكابينت المصغر قراره بالانطلاق لعمليته الحالية ضد لبنان يوم 7 نوفمبر، لكن انكشاف القوة الخاصة بخانيونس يوم 11 نوفمبر، ثم التصعيد الذي حصل حتى 14 من الشهر ذاته، أربك الحسابات الإسرائيلية، لا سيما الميدانية منها.
انتظر الأمر، وفقًا للرواية الإسرائيلية، عدة أيام وأسابيع حتى استقر الوضع الأمني في القطاع، بحيث أمكن للجيش الذهاب لعمليته الشمالية دون فتح جبهتين في آن واحد معًا.
أذكر أن هذه السطور، وسواها من الأقلام الفلسطينية والإسرائيلية، اجتهدت بمحاولة معرفة أسباب توقف إسرائيل المفاجئ عن رد الإهانة التي تلقتها من غزة، وكلها كانت من وحي التحليل الذي افتقر إلى المعلومة الدقيقة والخبر اليقين، وحينها تعددت مدارس التحليل السياسي في الخيارات التالية:
- بين من قال أن إسرائيل أدركت أنها أمام مقاومة قوية في غزة، ولن تستطيع الاستمرار بمواجهتها حتى إشعار آخر، بعد أن رأت إمكاناتها في المباني المستهدفة بمدينة عسقلان.
- وآخر اعتقد أن إسرائيل أوقفت العدوان مؤقتًا، وباتت تضمر في داخلها شرًّا لغزة، تتحين فيها الفرصة المواتية للانقضاض عليها بعد أن يتوافر لها عنصر المفاجأة.
- وثالث عدّ أن توقيت اندلاع التصعيد المفاجئ في غزة تزامن مع أزمة حكومية ائتلافية في إسرائيل، وعليه فإن استمراره، وإمكانية تطوره أكثر، قد يضر نتنياهو أكثر مما ينفعه.
اليوم بعد أن ذاب الثلج وبان المرج، يمكن الذهاب لتفسير رابع نراه أمام نواظرنا على جبهة الشمال، على اعتبار أن ما يحصل هناك أكثر قسوة وأبعد مدى مما هو قائم بغزة، وفقًا للتقييمات العسكرية الإسرائيلية، دون أن نسقط من الحسابات أي استدارة اضطرارية نحو غزة، ولكن بعيدًا عن الغوص في دائرة المؤامرات التي تخرجنا من دائرة التخمين المقبول إلى مربع الهواجس!