يقف كوكب الأرض كله اليوم على كلمة من هذا الرجل!
ينتظر العالم أن يتخذ قراره في أي أمر من الأمور.. تشرئب أعناق شعوب كاملة إليه، فمصيرها قد يتحدد بتوقيع منه.. ينتظر مئات الملايين قراره أو بيانه، وهو يتصرف بطريقة لا يفهمها الكثيرون!
إن شخصية هذا الرجل يمكن تحليلها وفهمها، وقد تمكن من ذلك بعض رجال الشر في حلف الثورة المضادة في المنطقة العربية، وتمكنوا -بناء على فهمهم لشخصيته- من توظيفه لصالحهم، أو من عقد توافق للمصلحة المشتركة بين الطرفين الدنيئين.
لشخصية دونالد ترامب عدة مفاتيح، ولكن المفتاح الأول لفهم تلك الشخصية المركبة هي أنه "مطوِّرٌ عقاري".
يظن البعض أن مفتاح شخصية ترامب أنه رجل أعمال، والحقيقة إن كلمة رجل أعمال تعتبر وصفًا واسعًا لنوعيات مختلفة -بل شديدة الاختلاف- من الناس، ومفتاح شخصيته الأكبر هو كونه مطوِّرا عقاريًا كبيرًا.
هناك فارق كبير بين العاملين في مجال الاستثمار العقاري، وبين العاملين في مجال التكنولوجيا، أو في مجال سوق المال.
ففي الوقت الذي ترى فيه محترفي البورصة ضعاف القلوب، يجنون الأرباح السريعة، ويهربون من أي سوق تنهار في لحظات، ويؤمنون دخول وخروج أموالهم الساخنة في عشية وضحاها. تجد المطور العقاري يتصف بصفات عكسية تماما، ومشاريعه لا تنجح إلا بشخص يملك نظرة ورؤية مستقبلية، مع نفس تتسم بقدر كبير من الثبات الانفعالي والرغبة في التحكم المطلق.
هذا النوع من رجال الأعمال (أعني المطوِّرين العقاريين) له صفات أصيلة، من أهمها:
أولًا: لا يهاب الهدم.
صحيح أن المطوِّر العقاري أساس نشاطه البناء والتعمير، ولكن الحقيقة أن غالبية هذه المشاريع الكبرى تكون بعد هدم أشياء موجودة على الأرض بالفعل، والهدم يحتاج إلى جرأة، وإقدام... هذا النوع من الناس لا يهاب الهدم!
والمطوّر العقاري من أمثال "ترامب" يفضل البناء في المواقع الاستراتيجية الحيوية داخل المدن، وهذه الأماكن في العالم كله تكون مكتظة بالسكان، وهو ما يقتضي عملية تفريغ للسكان، وهدم للمباني القديمة، ثم بناء المشروع الجديد.
(هل يذكرك ذلك بصفقة القرن؟)
ثانيًا: يؤمن بالأسوار.
طبيعة المشروعات العقارية الحديثة للمطورين الكبار أنها بيئة منعزلة، لأصحابها فقط، للقادرين على الدفع، أو للذين ينوون العيش في هذه البقعة، وهم يطمحون إلى قدر من الخصوصية الشبيهة بالعزلة.
بل إن الأمر في بعض البلاد -ككثير من بلداننا العربية- يتحوّل المشروع العقاري إلى ما يشبه "المنطقة الخضراء"، فهي فقاعة للأغنياء، معزولة عن واقع الفقراء المحيط بهم.
وهي بطبيعتها محمية ومؤمنة بكل وسائل الحماية، وأولها الأسوار، ذلك الحاجز المادي الصلب الواضح الذي يزرع الخوف في قلب الفقير (الذي يراه من الخارج)، ويزرع الطمأنينة والارتياح في قلب الغني (الذي يراه من الداخل). بهذا تستطيع أن تفسر رغبته الغريبة في بناء سور على الحدود الأمريكية المكسيكية!
ثالثًا: مشروعه البناء.
هذا النوع يحب أن يرى "ماكيت" مجسّما للمشروع، ثم يرى هذا الشيء وقد تحول إلى حقيقة في الواقع!
يبني من الصفر، ويستمتع برؤية المشروع يستكمل يوما بعد يوم، ومع مرور الوقت يكبر داخل المطور العقاري الرغبة في البناء من الصفر... بل من تحت الصفر... أي من مرحلة الهدم إلى مرحلة الانتهاء الكامل من المشروع.
رابعًا: قويّ لدرجة الاستبداد.
طبيعة هذا الرجل أنه مستبد، وثابت انفعاليا، ويؤمن بما يفعله، ولا يتراجع عن قراراته -حتى لو ثبت له خطؤها- إلا للضرورة القصوى.
السيد "ترامب" كان بطل برنامج تلفزيوني يوظف فيه الناس ويطردهم من العمل، ومن أهم وأمتع لحظاته في الحياة.. هي اللحظة التي يمارس فيها تلك القوة.. (أنت مطرود)!
هذا النوع من الناس على درجة لا يستهان بها من الثبات الانفعالي، وهو من النوع القابل لامتصاص الصدمات، وهو قادر على التفاوض ألف مرة في الموضوع نفسه، خصوصا لو لم يكن شريكا في الصفقة أو المشروع منذ البداية (لهذا السبب بالذات انقلب على الاتفاق النووي مع إيران).
كل تلك الصفات المزروعة فيه تخلق فيه عدة طباع، أولها:
الصبر...
هذا النوع من الاستثمار بطبيعته طويل الأجل، وهو يحتاج إلى صبر على مراحله المختلفة.
المشروعات الضخمة قد يستغرق البند الواحد فيها عدة سنوات، مثل الحفر والتجهيز للأساسات، والخرسانات، وأعمال التشطيب... الخ، فكل بند من هذه البنود قد يستغرق عدة سنوات في المشروعات الكبرى، وكل ذلك يقتضي صبرا على تفاصيل كثيرة، وصبرا على مشاكل لا تنتهي، فهذه المشاريع لا يمكن أن تخلو من مشاكل يومية ترهق من يديرها.
التعامل مع الفساد
وتلك سمة أساسية في المطوِّرين العقاريين - كبار الحجم - ولا أبالغ إذا قلت إن غالبيتهم ( خصوصا من يعملون في دول كثيرة) لا بد وأن يكونوا على استعداد للفساد بشكل ما (فليسامحني العاملون في المجال)!
أن يكون على اتصال وثيق بمصادر تمويل لا تنضب
غالبية المطوّرين العقاريين (أتحدث عن الحجم الكبير) لا يملكون المال اللازم لكل مشروع يبدؤونه، خصوصا أن المشروع الواحد يمتد لعدة سنوات، وبالتالي تكون مهارة صاحب العمل أن يدير التدفقات النقدية للمشروع، وهو بالنسبة للعاملين في هذا المجال من أصعب التحديات.
المطوِّرون الكبار دائما ما تكون لديهم علاقات بمصادر تمويل متعددة، (وهي مصادر ليست بالضرورة مشروعة)، وهم يقدمون لها ما يلزم من "الخدمات!" لكي يحصلوا على التمويل اللازم في وقت الأزمات.
كثير من العاملين في هذا المجال يمكن شراؤه بالمال حرفيا، كما أن نظرته للناس وللأشياء نظرة مادية بحتة، فكل شيء في نظره يمكن شراؤه، وهو لا يفهم الفارق بين "السعر"، و"القيمة"!
التعامل مع الرجل الوسيط
من طبيعة هؤلاء المطوِّرين أنهم يتعاملون بشكل محترف مع الرجل الوسيط، لهذا تجد السيد "جورج نادر" وأمثاله يعيش على أمثال "ترامب"، وترى "ترامب" أيضا يقضي مصالح كثيرة عن طريق وجود أمثال "جورج نادر"، فكلاهما لا يستطيع العيش دون الآخر.
من عيوب هذا النوع من الرجال أنه يرتكب كثيرا من الحماقات، بسبب استبداده، وبسبب رغبته الجامحة في رؤية مشروعه، وبسبب عدم خوفه من الهدم (فالهدم له عواقب أيضا)، وبسبب تعامله مع الفساد. فكثير من هؤلاء يتورط في قضايا لا أول لها ولا آخر في سبيل الوصول إلى التمويل. كما أن تضخم الثروة يسبب خللا ما في أدمغة هؤلاء، بحيث يصوّر لهم غرورهم الكون كله وكأنه مسخّر لإرضائهم.
لقد تمكنت الثورة المضادة من فهم السيد "ترامب"، وتمكن بعض أعداء أمريكا في روسيا ودول أخرى من التعامل مع شخصية "المطوِّر العقاري" المزروعة في مكونات الـ(D.N.A) لهذا الرئيس الغريب، في هذا الزمن العجيب.
لقد فهموا جيدا هذا الرجل بكل ما فيه من عيوب... بإمكانك أن تثق فيه، فهو بحكم أنه صبور، وأنه يعمل في مشاريع طويلة الأجل، وبحكم أنه يتوقع المشاكل، ويصبر عليها، وبحكم أنه يجيد التعامل مع الفساد، ولا يخاف الهدم، ويحب أن يرى ما خطط له وقد خلق على الطبيعة... هذا الرجل يمكن شراؤه... ويمكن أيضا الثقة فيه في مشاريع طويلة الأجل، فهو قابل للصمود إلى نهاية الطريق أكثر من غيره.
هذه نظرة تحليلية "موجزة" لشخصية هذا الرئيس الأمريكي الذي ابتلي به كل الشرفاء في كوكب الأرض، وهو تحليل أظنه يحتاج إلى مزيد من التعميق. ولعلي أعود إلى هذا الأمر مرة أخرى... بعد تجديد ولايته الثانية (إذا أنهى ولايته الأولى)!
ملحوظة: لا يفوتني أن أؤكد على أن المقالة تتحدث عن جانب واحد في شخصية "ترامب"، وأن ذلك لا يلغي وجود مفاتيح أخرى، تتعلق بتحيزه العنصري، وبتعصبه الديني، وأشياء أخرى لا مجال لذكرها بعد أن طالت المقالة.
عربي 21