تواصل هذه السطور الحديث في تبعات المواجهة العسكرية الأخيرة في غزة بين المقاومة والاحتلال، ونصل اليوم إلى وقفتنا الرابعة في استحضار الدلالات السياسية لما شهده الميدان، من أداء عسكري فلسطيني، وتردد إسرائيلي واضح في عدم الذهاب بعيدا.
ربما عملت المقاومة في غزة خلال هذه الجولة وفق القاعدة العسكرية القائلة إن "المعارك القتالية هي امتداد للسياسة بوسائل خشنة، كما أن المفاوضات السياسية امتداد للمعارك بوسائل ناعمة"، وقد تجلى ذلك في المؤشرات الآتية:
- الحسابات الدقيقة في إطلاق ذلك الكم من الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة، فقط الغلاف.
- إرسال رسالة مفخخة عبر صاروخ الكورنيت الذي استهدف حافلة عسكرية إسرائيلية، ربما دون أن يتسبب بإيقاع كم كبير من القتلى والجرحى الإسرائيليين.
- صدور عدد من المواقف عن قادة سياسيين فلسطينيين في ذروة التصعيد بانفتاحهم على أي جهود سياسية لكبح جماح العدوان الإسرائيلي.
هذا يعني أننا أمام أداء عسكري قتالي مغلف برغبة سياسية فلسطينية إسرائيلية لا تخطئها العين بعدم دحرجة الأمور لمواجهة مفتوحة، وهنا قد تكون تشابهت المصالح واختلفت الأسباب، فالمقاومة ترى أن ما حققته التفاهمات الأخيرة مع الوسطاء الإقليميين والدوليين مع (إسرائيل) يمكن البناء عليه، من خلال تحسين الظروف المعيشية في غزة، ولذلك قد لا يكون من الحكمة إهدار ما تحقق عبر استمرار فترة المواجهة أكثر مما استغرقته، وأوصلت رسالتها للاحتلال.
الاحتلال من جهته، لا أحد يعلم بالدقة ما الذي جعله يستوعب ضربات المقاومة القاسية باتجاه جبهته الداخلية، ربما خرجت تسريبات مشفرة غير مفهومة عن أسباب عملياتية وأمنية حالت دون توجيه ضربات مضادة للمقاومة، لكن العنوان الذي ما زال يسير وفقه الإسرائيليون هو تسكين جبهة غزة، حتى إشعار آخر، وإن كانت موجة تصعيد قاسية ضد المقاومة للرد على ما عدوه كسرا لصورتهم الردعية ضرورية ومهمة.
كثيرة هي المظاهر التي ميزت هذه الجولة العسكرية الأخيرة في غزة، ربما من أهمها، وهي بعيدة عن متناول الجمهور، حالة الحراك السياسي التي كانت سائرة على قدم وساق، برغبة كل الأطراف بعدم دهورة الموقف إلى تصعيد مفتوح غير محسوب.
لقد اتضح في نهاية هذه المواجهة القصيرة أننا أمام جولة محدودة الزمان والمكان والأدوات، أراد كل طرف فيها إيصال رسائله السياسية المفخخة. ربما وصلت كل رسالة لأصحابها، وأهمها أن الباب الموارب يجب أن يبقى مفتوحا في ذروة النار والرصاص، لأنه أولاً عن آخر لا بد أن يلتقي المتقاتلون عند نقطة ما، فمن الأفضل لهم أن يصلوا إليها قبل أن تغوص أقدامهم في مساحات أوسع من الدماء والعرق والدموع، كي لا يسبق السيف العذل!