سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث، بعدما غضب الله عليه ولعنه لما لم يسجد لآدم كسائر الملائكة، فقال: (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فاستجاب له ربه: (قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ)، ومن ساعتها احتدم الصراع بين الحق والباطل إذ أقسم إبليس فـــــــ (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)، فكان هذا الصراع سنة كونية، أراد الله تعالى من خلاله أن يميز الخبيث من الطيب، ويُرِيَ كيف أي النهجين يمكن للعبد أن يختار، هل يختار المنهج المغرق في الوحل والشهوات فيخلد إلى الأرض؟ أم يختار المنهج العلوي، الذي يترفع به العبد عن كل نقص، ويسمو في سماء المُثل والقيم العليا.
واقتضت رحمة الله تعالى أن لا يُترك الإنسان يعالج غواية إبليس بمفرده واجتهاده، فبعد أن توعد إبليس بإغواء الخلق وفتنتهم، ألتفت الله تعالى إلى أبيهم آدم قائلاً: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، فكان أول نزال بين آدم وإبليس الذي بدأ هجومه بالوسوسة، ذلك السلاح الخفي الخطير (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، وكانت النتيجة خسران آدم وهزيمته، فأُهبِطَ الخصمان إلى الأرض لينتقل الصراع من هناك، من الجنة إلى الأرض.
ومرة أخرى يلتفت الله تعالى إلى البشر، ليمدهم بالمدد، ويهديهم سواء السبيل، فيرسل لهم من يذكرهم بالعدو المبين: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، كان ذلك كي لا يظل إبليس في ميدان المعركة متفرداً ببني آدم، يصدهم عن سبيل الله، فجاء الرسل مبشرين ومنذرين، وكان لكل رسول معجزة يتمكن بها من إيقاظ العباد من سكرتهم التي سقاها إياهم إبليس بوسوسته حتى أقنعهم بأنه هو الرب المعبود، وأن لا ربّ سواه، ولكن الحاصل أن الناس منهم من آمن برسل الله ومنهم من عاند، واستكبر، وأصرّ على أن إبليس هو إلهه. وكان هؤلاء المكابرون المعاندون هم جند إبليس في الأرض، ملؤوها جوراً، وظلماً وطغياناً، حتى وصل بإبليس الأمر أن نفث في روع بعضهم أن يقول: (ما علمت لكم من إله غيري).
ولما كان الأنبياء بشراً، كان لا بد أن يشربوا من كأس الموت، ويغيبوا عن حلبة الصراع، فيبقى إبليس هو سيد الموقف، دون خصوم حقيقيين، فيزداد في هذه الفترة طغيان الباطل على الحق، وتعلو راية الظلم والقهر، وتغرق الأرض في ظلمة الكفر.
وفي خِضم هذا الظلام يولد محمد صلى الله عليه وسلم، ليرفع لواء الأنبياء من قبله، ويعلي راية العدل والحق، مع كونه المميز عن سائر الأنبياء بأنه خاتمهم، وأن رسالته كانت للناس جميعاً، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الأمر يقتضي أن يكون الصراع مختلفاً، وأشدّ قوة وصرامة، ويقتضي كذلك أن تكون معجزة محمد ليست كسائر معجزات الأنبياء، فهي السلاح الذي سيقابل به سلاح إبليس ووسوسته، وهي المنقذ للناس من الضلالة والشرك، إلى الهدى والإيمان.
يتبع