وضعت كتبها على عجل في الحقيبة، ووضعت زجاجة ماء صغيرة وقطعة خبز دهنتها بقليل من الزيت والزعتر.. حملت الحقيبة على ظهرها وسارت بخطى متعجلة في الطريق الترابي المختصر الذي يوصلها لمدرستها علها تصل قبل أن يقرع الجرس.. شاهدت عن بُعدٍ قطيع مستوطنين مشاة يعبرون المكان، ترددت: ماذا يفعلون في هذا الوقت المبكر هنا؟ هل أكمل طريقي، أم أقفل راجعة من حيث أتيت؟
عزمت أمرها بعد قليل من التردد: ولماذا أرجع؟ البلاد بلادي، وأنا مجرد طالبة في الثانوية العامة أحمل حقيبتي وأسير لمدرستي.. ليس لدي سلاح أو ما يشكل خطرًا عليهم.
تابعت طريقها بخطى ثابتة أما قلبها فكان يقرع كطبل أجوف.. اعترض طريقها فتى مستوطن يصغرها سنًّا.. حاول نزع حقيبتها بالقوة عن ظهرها، صرخت به قائلة: اتركني واذهب في سبيلك، إلا أنه أصرَّ على مضايقتها وأخذ يسحب الحجاب عن رأسها محاولًا نزعه.. ركلته بقوة بعد أن ضاقت ذرعًا بتعديه عليها فوقع أرضًا.. ثم أخذت تركض هاربة إلى مدرستها.. لحق بها بقية القطيع ككلاب مسعورة إلا أنها كانت أسرع منهم.. فعاجلها أحدهم بطلق ناري صوبه نحو قدمها فأصابها.. سقطت أرضًا تنزف دمًا وألمًا ورعبًا.. تحلقوا حولها ومضوا يشتمونها بألفاظ بشعة وبذيئة ويركلونها بأقدامهم، ويأمرونها بأن تموت.. بعد دقائق حضر جيب عسكري، نزل منه الجنود، قيدوا يديها ورجليها وعصبوا عينيها واقتادوها إلى مؤخرة الجيب دون أن يأبهوا لإصابتها ونزفها.
أُوقفت في مركز للتحقيق، أُحضر لها شخص يرتدي روبًا أبيض ولا يبدو أنه طبيب، لف ساقها بضمادة وأعطاها مسكنًا للألم، ثم حُولت إلى جلسات التحقيق.. محققون سبعة تناوبوا على التحقيق معها، اختلفت الأساليب والقسوة والشتائم فيما بينهم..
- اعترفي وسنساعدك، وسنرسلك إلى المشفى لإجراء عملية لإزالة الرصاصة من قدمك.. إن رفضت التعاون معنا والاعتراف ستبقى الرصاصة وقد تتعفن قدمك ويضطر الأطباء لبترها.. نحن حريصون على مصلحتك.
- بماذا أعترف؟ أنا لم أفعل شيئًا.. هم من اعتدوا عليَّ.
- اعترفي بأنك كنت تحملين سكينًا في حقيبتك وكنت على وشك طعن الفتى بها.
- هذا غير صحيح.. كنت أحمل كتبًا ودفاتر وخبزًا وقنينة ماء.. الحقيبة ما زالت لديكم تستطيعون فحصها والتأكد من ذلك بأنفسكم.
- أنت كاذبة وعنيدة، ونحن نعرف جيدًا كيف نطوعك.
- أنا لم أفعل شيئًا.. أريد حقي ممن اعتدى عليَّ وأطلق عليَّ الرصاص.
- هم دافعوا عن أنفسهم أمام إرهابك.
- أنتم الإرهابيون.. أنتم المجرمون.. أيها القتلة.. أخرجوني من هنا.. أريد العودة لمدرستي.
مكثت في مركز التحقيق أسبوعين خَبرت فيهما معنى المهانة والكبت والإذلال، بذلوا ما بوسعهم لقتل روحها المعنوية وطمس شجاعتها والفتك بثباتها، حُولت بعد ذلك إلى سجن هشارون، لتبدأ معركة من نوع جديد، معركة الصمود والوجود.
سجينات أمنيات يهوديات مشبعات بكراهية كل ما يمت للفلسطينيين بصلة، اعتدين عليها، ضربنها، شتمنها، وهدَّدنها بالقتل.. استغاثت.. طلبت المساعدة، ولكن إدارة السجن لم تتدخل، وكأن الأمر خارج سلطتهم.. تحلقت الأسيرات الأخريات حولها، بذلن ما بوسعهن لحمايتها وطمأنتها.. سكنت روحها وهدأت.. برغم أن آلام قدمها لم تسكن ولم تهدأ.. ساوموها: الاعتراف مقابل العلاج وتخفيف الآلام.. صمدت.. تحدت المحقق والسجان وآلام الرصاصة والحمى الليلية التي أخذت تزورها وتحرمها النوم.. صقل الأسر شخصيتها وقدرتها على الصمود والثبات.
أشهر ثلاثة أوقفت خلالها في السجن، لم تكن تستطيع أن ترى الشمس أو تسبح ببصرها في السماء.. اشتاقت لحضن والدتها وحنان والدها، ودفء البيت والأسرة، تمنت العودة لمقاعد الدراسة، فامتحانات الثانوية العامة قد شارفت على البدء.. قسوة السجان وعنفه وتهديداته المستمرة هو كل ما يمكنها رؤيته وسماعه يوميًا.. سنهدم بيتك.. سنسجن والدك.. سنتقتل أمك.. سنشوه سمعتك فلا يتقبلك أحد ولن يتزوجك أحد.. المجتمع في الخارج يرفضك.. لم يعودوا يذكرونك.. نسيتك زميلاتك في المدرسة ومعلماتك.. لن تقبل بك جامعة فأنت فتاة خارجة عن القانون.
- أيها الكاذبون.. أعلم أساليبكم المخادعة.. لي أهل وأصدقاء ينتظرون خروجي على أحر من الجمر.. ومستقبل مشرق ينتظرني خارج أسوار سجنكم المقيت.. لن تدوم زنزانتكم ولا قيودكم.. لن تضعفوني ولن تهزموني.. أنا الفلسطينية التي لا تخشاكم.. سأخرج من معتقلكم شئتم أم أبيتم ولن يبقى لكم وجود على أرضي.. سترحلون أيها المعتدون.