كشف قرار المجلس المركزي الفلسطيني الأخير تعليق الاعتراف بـ(إسرائيل) عن خلل متأصل في السياسة العربية بشكل عام، وهو المبادرة بتقديم التنازلات من أجل إلزام الطرف الآخر أدبيًّا للعمل بالمثل، وقد انتشر هذا الاتجاه في الوطن العربي منذ حقبة السبعينيات الماضية حين بادر الرئيس المصري محمد أنور السادات بالاعتراف بـ(إسرائيل) عمليًّا ورسميًّا بزيارته لها في تشرين الثاني 1977، ثم ترك لقادة الاحتلال بعد ذلك الوقت والحرية لبحث خطوتهم التالي.
وكل هؤلاء الزعماء العرب المتعطشين للتطبيع يعرفون كيف ماطل الإسرائيليون في ذلك الوقت، وكيف صرح رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي مناحم بيجين حين سئل كيف سيرد على زيارة السادات: لقد قام السادات بزيارتي في (إسرائيل)، فسأقوم بزيارته في مصر! وإذا كنا قد حصلنا من إسرائيل بعد ذلك على ما هو أكثر من زيارة رئيس وزرائها فإن ذلك يعود للجهود السياسية المضنية التي بذلت طوال أكثر من عشر سنوات بعد زيارة القدس إلى أن رفعت مصر علمها على الحدود الشرقية في طابا عام 1989.
وقد ساد هذا النهج على الجانب العربي حتى بعد انقضاء عهد السادات، في حين وجدنا السياسة الإسرائيلية على الجانب الآخر، تستفيد من الكرم العربي السابق ثم تبدأ بعد ذلك في التفاوض بهدوء وتأنٍّ فيما ستقدمه بدورها أو لا تقدمه، وربما كانت مبادرة السلام العربية خير مثال على سخائنا هذا، وقد جاءت بعد أكثر من عشرين سنة على رحيل السادات وقدمت للاحتلال كل ما يريده من الاعتراف وتطبيع العلاقات في مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية، وها هو الاعتراف قد ساد في معظم الدول العربية رسميًّا أو ضمنيًّا، وشهدنا التطبيع على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي وحتى الرياضي، دون أن تكون (إسرائيل) قد انسحبت سنتيمترا واحدا من الأراضي المحتلة، ودون أن تقوم للدولة الفلسطينية قائمة، بل وجدنا عاصمتها القدس تعطى لها على طبق من ذهب.
فجأة وجدنا رئيس وزراء الاحتلال المكروه دوليًّا أكثر من أسلافه جميعا والملاحق قضائيًّا بالفساد، يرحب به في زيارة رسمية في عُمان مع زوجته سارة التي تلاحقها هي الأخرى اتهامات التربح واستغلال النفوذ، وبالتوازي في خضم سباق التبيع رأينا زيارات أركان الاحتلال للعواصم الخليجية الأخرى، في مواضيع عدة هي رياضة، ثقافة، اتصالات، مشاريع سكك حديدية، صفقات أجهزة تجسس، إلخ. فرأينا وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف تبكي من التأثر عند وقوف المسؤولين الإماراتيين في أثناء عزف السلام الوطني الإسرائيلي خلال زيارتها الرسمية، في الوقت الذي نبحث حولنا عن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة فلا نجده، ونبحث عن تلك الدولة الفلسطينية التي طالبت بها المبادرة فلا نجدها هي الأخرى.
لكن الذي تبين أن الأمر لم يكن فجأة، بل استغرق أربعة أشهر بقيادة الموساد، وأن رئيس الموساد يوسي كوهين زار مسقط للاتفاق على التفاصيل على نحو ما كتب رونين بيرجمان الذي تحدث عن ثلاثة مكاسب محتملة من هذه الزيارة.
أولها مكانة عمان العالية في التوسط بين الاحتلال وأطراف خليجية أخرى عربية دون استثناء إيران، وثانيها أن تدفع هذه الزيارة حماس دول خليجية أخرى لتبادر بكشف حقيقة علاقتها الحميمة مع الاحتلال علنياً اقتداء بسلطنة عمان، وثالثها، أن تكون هذه الزيارة خطوة تأسيسية لتحالف الاحتلال مع دول الاعتدال السُنية لإحكام الطوق حول «العدو الإيراني المشترك».
الغريب أن الغرب اليوم يقاطع أغلب منتجات وصادرات الاحتلال ومؤسساته التعليمية والثقافية والرياضية والأمنية بما عرف بحملة المقاطعة (BDS) والبعض من العرب يلهثون وراء التطبيع. ففي الوقت الذي أصبح فيه الكثير من الفلسطينيين متعبين من حالة العزلة ومحاولة التواصل مع أشقائهم من العرب فإن سياسة التطبيع مؤذنة بتعزيز منزلق خطير لهذا الشعور بإغفالها نتائج المدى البعيد لهذه السياسة بإتاحة الفرصة لأولئك الفلسطينيين الذين لديهم نيّات شائنة بالتعامل مع الإسرائيليين والمؤسسات الإسرائيلية. هذه المشاركة والتعامل سواء كانت بوعي أو بغير وعي هي اعتراف فعلي بسياسات الاحتلال وأسسه الأيديولوجية. فسياسية التطبيعتكسر الحاجز النفسي لدى العرب في التعامل مع الأراضي المحتلة في ظل بقاء المحتل، وقد تؤدي لاحقًا إلى تجاوز الحاجز النفسي في التعامل مع المحتل ذاته وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني.
فالتطبيع هو الذي يزيد من اسرار الولايات المتحدة لتقديم مبادرات سلام أكثر جورًا للفلسطينيين. فالإدارة الأمريكية ترى التطبيع كقبول تام من الحكومات العربية للاحتلال على حساب الفلسطينيين، خاصة في ظل تفاقم الموقف العدائي لإدارة الامريكية الحالية ضد الفلسطينيين. وستمهد سياسة التطبيع للحكومات العربية لصناع القرار الأمريكي تبني حلول مناسبة للإسرائيليين فحسب.