فلسطين أون لاين

رحلة الموت ابتلعت الأحلام الوردية للطفل طلال العساف

...
الطفل طلال العساف
غزة - إيمان شبير

رحلةٌ سماويةٌ طافت بقلوبٍ بريئة، احتضنتهم ملائكة السماءِ قبل الأرض، أحاط بهم طوفان الماء من كلِّ حدبٍ وصوب، كان المشهد أقسى من مشاهدَ مسلسلِ رعبٍ نشاهده عبر التلفاز، الطوفان لم يمهلهم كثيرًا، بعضهم نجا بجروحٍ عالقة في أجسادهم، وآخرون كانت شهقة الموت أكبر من براءتهم فاختطفت الكثير منهم، تلك الرحلة في منطقة البحر الميت كانت وسط جوٍ ماطر بغزارة، لم يكنْ فيها لونٌ للفرح، فقد اختطفت أرواحاً بريئة كالطفل" طلال العساف" -13عامًا - الذي ابتلع البحر طفولته وبراءته وحرمه من حياةٍ ورديّةٍ حلُمَ بها .

حياة طلال

كانت بذرة الأمل والطموح تنمو شيئًا فشيئًا في حياة الطفل طلال، الذي تمتع بعقلٍ راجحٍ، وتفكيرٍ يسبقُ طفولته، ومواقفٍ رجوليةٍ كان رفيقًا لوالده بها، حيث كان من روّاد المساجد، محافظًا على صلواته التي يحلّقُ معها في ملكوتٍ طاهرٍ يصلُ به إلى بوابةِ السماء .

كالأب الحنون الذي يضمُّ للمرةِ الأولى طفله، كَـرجلٍ يربتُ على رأسِ أمِّه، هكذاكان طلال يحملُ في قلبِه منبعًا من الحنان لكلِّ من حوله رغم صغر سنه .

لكنّ أحلامه الوردية وأمنياته التي تمسّك بها، كأن يصبح جنديًّا في الجيش عندما يغدو شابًا يافعًا ليحرسَ بعينِيه الوطن، ابتلعها الموت مع صاحبها.

رحلةٌ إلى الموت

ملامحُ الفرح ارتسمتْ على وجهِ الطفل "طلال " حينما أعلنت مدرسته "فيكتوريا" عن رحلةٍ تعليميةٍ إلى منطقة البحر الميت ، فكان إصراره على الخروج لهذه الرحلة كبيراً رغم رفض والديْه الشديد، بسبب الحالة الجوية السيئة المصحوبة بأمطار شديدة، لكنه من خلال جدته "أم أمه" استطاع إقناع والديْه بالسماح له بالذهاب !

ليلحق بزملائه المسجلين في الرحلة صباح الخميس "25 أكتوبر/ تشرين الأول 2018م " ، إذْ يستذكر والده قوله لابنه قبل ذهابه "سأتأخر اليوم" وكأن الطفل "طلال" كان يشعرُ بأنه لنْ يعود!

في الساعة الواحدة ظهرًا بدأت الأمطار بالسقوط حتى تحوّل " نهر وادي عين الزرقاء " إلى سيول عارمة، وفي كل دقيقة كان يرتفعُ منسوب النهر شيئًا فشيئاً ليعلو شعور الخوف والقلق ، لا خيار أمام الطفل " طلال " وزملائه إما النجاة أو الموت ! كان المشهد قاسٍ حين جرفت مياه النهر مجموعة من الأطفال من بينهم "طلال" وسطصراخ ملأ المكان رعبًا وعويلًا .

تقترب الساعة من الثانية ظهرًا ولا أحد في المكان سوى زئير الموت الذي حاصر عنق الطفل " طلال " وصدى صرخات الأطفال التي ملأت النهر !

لحظة صمت

كلُّ شيءٍ في صفحات الأخبار يدعو للقَلق، أرصفة الشوارع التي امتلأت بنحيبِ وعويلِ الأمهات والآباء، رفع حالة الطوارئ في المستشفيات، ترقّب الجميع، والتساؤلات الكثيرة التي كانت تدور في أذهانهم ! كان الأمر مخيفًا شرسًا، لكن " والد طلال " الإنسان الذي يحمل بقلبه يقينًا وإيمانًا حاول أن يربت على قلب زوجته وأن يطمئنها بعد الخبر الذي جاءهما بإصابة طفلهما الساعة السادسة مساءً .

بدأت علامات الحزن تزحفُ للأعماق، ترسمُ ملامحها بين أروقةِ القلب، وتسكبُ كؤوسًا من الدمعِ الذي امتد على صفحاتِ نهرٍ ابتلع الكثير من براءةِ الأطفال ..

أحيانًا تتعاظم الآهات لتصبح أقوى وأعمق من أن تتحملها الروح الإنسانية، عندما تُصاب الروح بغصّة، والأنفاس بِـاختناق، ذاك الشعور اللعين الذي حاصر عائلة الطفل " طلال " عندما تأكدوا من خبرِ استشهاده الساعة الثامنة مساءً، حينما أمسكوا بأيديهم المرتجفة لائحة بأسماء الأطفال الشهداء! حينئذٍ لا شيء إلا هذيان يموجُ في الأحشاءِ مَرارًا، تنزفُ العائلة لحنًا حزينًا، يبكون على أوتارٍ منسوجةٍ بخيوطِ الألم.

فمواكب الحزن أرختْ ستائرها فوق المدينةحين عانق الموت أحد أطفالها لكنَّ السّكينة التي نزلتْ على قلبِ " أبو طلال" كانت رسالة سماوية بأن الله يصطفي الأنقياء، حيث كان ابنه طفلاً ملتزماً خلوقاً يحاولُ أن يقلّدَ والده في وقارِه وهيبتِه .

في "بيت العزاء" كان يردد "أبو طلال العساف" ( الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله ) هذا اللسان الذي ما نطق إلا حقًا، هذا الصبر الذي تجذَّر بتربةِ قلبه حين رأى جنازة طفله التي تجاوزت الألفيْ شخص، فرغم مشاعر الصدمة التي حلّت به إلا أنَّ علامات القبول له في الأرضِ والسماءِ كانت رسائل اطمئنانٍ تُبشِّر بالجنة في الآخرة.