جرت العادة في (إسرائيل) منذ تأسيسها أن يكون الفصل قائما بين دوائر اتخاذ القرار، لاسيما بين المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، وهو بالمناسبة مظهر صحي سوي، لعله ينتقل إلى الكثير من البقاع الجغرافية.
لكن الشهور الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة في التكليفات "السياسية" التي يقوم بها المسئولون "الأمنيون" الإسرائيليون، سواء في الأراضي الفلسطينية أو الدول العربية المجاورة، وهناك في ما وراء البحار.
آخر تجليات هذا المشهد الذي يعبر عن استدارة اضطرارية في آليات اتخاذ القرار الإسرائيلي تمثل في الزيارات المتكررة التي يقوم بها نداف أرغمان رئيس جهاز الأمن الاسرائيلي العام "الشاباك" الى السلطة الفلسطينية ولقاءاته الماراثونية مع الرئيس محمود عباس، وبحثه معه قضايا سياسية، وإرساله رسائل ذات طابع تفاوضي بين تل أبيب ورام الله.
قبلها بأيام تم الكشف عن دور كبير اضطلع به رئيس جهاز الموساد في ترتيب الزيارة "التاريخية" التي قام بها بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى سلطنة عمان، ولقائه بالسلطان قابوس، حيث بدأت تحضيرات الزيارة منذ عام ونصف من حصولها.
بجانب هذا وذاك، يظهر مائير بن شبات، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، صاحب الزيارات المكوكية إلى واشنطن، ولقاؤه هناك بأعمدة الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والجيش، ومحاولاته المستمرة في إقناع الولايات المتحدة بالمواقف الإسرائيلية ذات العلاقة بقضايا المنطقة.
لعل ما تقدم ذكره من أدوار "سياسية" لشخصيات "أمنية" هو قمة جبل الجليد، في ظل ما تفرضه الرقابة العسكرية الإسرائيلية من تعتيم على مهام عديدة تبقى طي الكتمان حتى يحين موعد الكشف عنها، لكن هذا الغيض من فيض الملفات السياسية التي يضطلع بها الجنرالات يعطي دلالات لم تكن حاضرة في سنوات وعقود سابقة داخل (إسرائيل).
هناك الكثير من التفسيرات التي يمكن الحديث بشأنها عن تمدد صلاحيات رجالات الأمن والاستخبارات في إسرائيل، مما قد يفسح المجال للحديث عن تغييرات ما في لوائح عمل هذه الأجهزة الأمنية، بحيث تصل الى مهام سياسية بحتة، مع أن المرجح أن المستوى السياسي الذي يترأسه نتنياهو اليوم يمسك بين يديه بالملفات جميعها، أمنيها وسياسيها، ويعمل على تدوير هذه الإدارات بما يخدم التوجهات العامة للدولة.
هناك الكثير من المحطات المفصلية التي عاشتها (اسرائيل) من معارك عسكرية واتفاقيات سلمية، شهدت استقطابات حادة بين المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، لكن الواضح اليوم أن رؤساء المؤسسة الأمنية والاستخبارية إما أنهم يعيشون حالة انسجام مع رئيس الحكومة، أو يمكن ترجيح القول إن نتنياهو نجح في تطويعهم بخلاف نظرائهم السابقين، الذين حافظوا آنذاك على التوازن المطلوب بين مختلف دوائر صنع القرار فيها..وهذا هو الوضع الصحي المطلوب في (إسرائيل) وسواها..