لا تكمن أهمية زيارة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عُمان في الحدث فحسب، فالاتصالات والزيارات بين الاحتلال والدول العربية تعود إلى سنواتٍ طويلة، أما هذه المرة فالزيارة على مستوى رئيس الوزراء وعلنًا. والدولة المضيفة هي سلطنة عُمان، المعروفة بتبنّي سياساتٍ شديدة البراغماتية، وتتجنب المواقف الدعائية والتحرّكات الصاخبة.
السياسة العُمانية الرسمية معروفة بعدم التقيد بتوجهات الدول الأخرى المحيطة بها، أو بمواقف هذه الدول، سواء على المستوى الخليجي أو العربي، فقد كانت عُمان الدولة العربية الوحيدة التي لم تقطع علاقاتها مع مصر بعد "كامب ديفيد". وفي المقابل، كانت أول دولة أقرت تشريعًا يفرض عقوباتٍ على الأشخاص والكيانات التي تتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1972.
عمان -بحسب ادعاءات إسرائيلية- تقيم منذ عشرات السنين علاقات أمنية واقتصادية مع الاحتلال، ووافقت سلطنة عمان على إقامة علاقات علنية في الفترة التي تبعت توقيع اتفاقيات أوسلو.
الاستقبال الذي حظي به نتنياهو في عمان، واستعداد السلطنة لنشر ذلك على الملأ، يعكس حجم "الإنجاز"، خاصة أن الزيارة تمت بعد يومين فقط من زيارة رسمية لرئيس أركان جيش أذربيجان، الجارة الشمالية لإيران، الأمر الذي يحمل بدوره رسالة واضحة.
العلاقات بين الاحتلال وسلطنة عمان بدأت في سبعينيات القرن الماضي، عنما طلبت السلطنة المساعدة من (إسرائيل) ومن بريطانيا، بعد حوادث حدودية مع اليمن الجنوبي، وقدم الاحتلال حينها للسلطنة خدمات أمنية تضمنت إرسال خبراء عسكريين للتدريب، ومعدات تكنولوجية، وحافظت على علاقات أمنية وثيقة. وحرص رؤساء الموساد منذ أواسط السبعينيات على إقامة علاقة وثيقة مع السلطنة ولقاء السلطان قابوس بن سعيد في أكثر من مناسبة.
رونين بيرغمان، الخبير في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية وعلاقاتها المتشعبة مع أجهزة مختلفة، ذهب إلى أن العلاقات بين السلطنة وبين والاحتلال الإسرائيلي تقوم على مصلحة مشتركة، لافتا إلى بعض الزيارات الأولى لمسؤولي الموساد لمسقط، ومنها في خريف عام 79، عندما قام المسؤول الرفيع في الموساد آنذاك، رؤبان مرحاف والجنرال ماندي مرون بالوصول إلى مسقط بجوازات سفر أجنبية، وعقد مباحثات مع السلطان قابوس بن سعيد. وبحسب بيرغمان، فإن زيارة نتنياهو الأخيرة هي "ثمرة اتصالات مستمرة وعمل مكثف" في الأشهر الأربعة الأخيرة قام بها الموساد الإسرائيلي، وأنه يمكن الافتراض أن رئيس الموساد زار مسقط قبل مرافقة نتنياهو في الزيارة العلنية.
يرى الاحتلال للسلطنة قدرة على أن تكون وسيطًا مع أطراف مختلفة، لكونها مقبولة من دول كثيرة، منها أيضًا السعودية وإيران وقطر وسوريا، وعليه يمكن لـ(إسرائيل) عبر السلطنة أن تنسج علاقات سرية مع كل طرف يوافق على ذلك، ومثل هذا المسار في العلاقات سهل إذا كان تحت رعاية السلطان قابوس.
تدعم الزيارة أيضًا إستراتيجية نتنياهو الشرق أوسطية القائمة على نسج وإقامة تحالفات سرية وعلنية قدر الإمكان، بهدف منع انتشار النفوذ الإيراني، وسط استخدام هذه التحالفات وتوظيفها باعتبارها دليلًا على إمكانية التوصل لعلاقات طبيعية مع الدول العربية، حتى دون حل القضية الفلسطينية.
واقع الحال يشير إلى أن سياسة عمان تسير على خطوط متوازية، تبدو في ظاهرها متعارضة، فهي دولة خليجية عربية وعضو مؤسس في مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وفي الوقت نفسه، تجمعها روابط قوية مع إيران، وصلت إلى إبرام اتفاقية تعاون عسكري عام 2013. وفي اتجاه موازٍ، استقبلت عُمان إسحق رابين عام 1994، وكانت من الدول العربية القليلة التي سمحت بتبادل التمثيل التجاري مع الاحتلال منتصف التسعينيات.
لو كان استقبال مسؤول إسرائيلي يعد تطبيعًا، لكانت سلطنة عُمان من أولى الدول التي "طبَّعت" قبل ربع قرن، غير أن دلالات زيارة نتنياهو إلى مسقط أعمق من مجرد التطبيع أو إقامة علاقات رسمية علنية بين دولة خليجية والاحتلال في هذا التوقيت بالذات، فالزيارة تأتي في وقتٍ تستعد فيه دول المنطقة لاستقبال ما يطلق عليه "صفقة القرن" أو "مشروع السلام" حسب وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي. وقد أشار وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي صراحة إلى هذا السياق للزيارة، بحديثه عن رغبة السلطنة في تسهيل عملية السلام، قبل أن يستدرك نافيًا أن مسقط تضطلع بدور الوسيط في هذه المسألة.
لا جديد، إذًا، في نمط السياسة العُمانية. لن تقتصر تداعيات خطوة استقبال نتنياهو على الملف الفلسطيني بحدِّ ذاته، فالمستوى الرفيع للزيارة وتوقيتها وتعمّد الإعلان عنها، كلها أمور تُنذر بقرب دخول منطقة الشرق الأوسط مرحلة الانفتاح والتقارب أو بالمصطلح المباشر الصريح "التطبيع" مع الاحتلال.
الاختلاف الجوهري عن الاتصالات والزيارات ومظاهر التطبيع السابقة أن زيارة نتنياهو مسقط تشكل منعطفًا حادًّا نحو نقلةٍ نوعيةٍ وتحول تاريخي في منظومة التفاعلات بين دول الشرق الأوسط باتجاه دمج الاحتلال (وبموافقة ضمنية من السلطة) في المنطقة رسميًا من دون تحفظات أو قيود. واعتبارها دولة طبيعية ليست فقط مثل أي دولة أخرى، بل أقرب إلى بعض الدول العربية من دول أخرى في المنطقة، تحديدًا إيران.
عباس والسلطة امتنعا، وفي بعض التقارير المسربة، منعا أي انتقاد علني لعمان بعد استقبال نتنياهو، ما يدل على تواطؤ من السلطة الفلسطينية في تسهيل مرور هذه الخطوة المفاجئة بعلنيتها للشارع العربي، وأن عباس المحذر قبل أيام من خطوات خطيرة ستشهدها القضية الفلسطينية بات مستعدًا الآن للقبول بالأمر الواقع الإسرائيلي- الأمريكي وتسهيل إدماج كيان الاحتلال في المنطقة، لتأمين بعض المساعدات المالية وتأمين بقاء السلطة ولو كان على حساب التنازل عن ثوابت فلسطينية لا تقبل جدالًا أو نقاشًا.