كتب نزار قباني قصيدة "المهرولون" في أواسط التسعينيات بعد توقيع "سلامِ الجبناء"، حسب تعبيره، لوصف التهافت العربي على إقامة علاقات علنية مع (إسرائيل)، بزعم انتهاء الصراع وتدشين مرحلة جديدة في المنطقة.
منذ ذاك الحين، جرت مياه كثيرة في نهر الأردن كما يقال، فـ"السلام" لم يتحقق وتبخرت اتفاقيات أوسلو، وتكشّفت حقيقة (إسرائيل) بوصفها دولة استعمارية، وصار اليمين المسياني المتطرف تيارًا مركزيًا فيها، يهمين على مفاتيح الحكم.
رغم ذلك لم تتوقف المنافسة العربية على التطبيع مع (إسرائيل)، بل قدّمت السعودية "مبادرة السلام العربية" مطلع الألفية، وكانت (إسرائيل) تدك البلدات الفلسطينية في الضفة وغزة وتحاصر ياسر عرفات في المقاطعة. والمبادرة السعودية لم تكن سوى طوق نجاة لحكم آل سعود للتخلص من العقوبات الأميركية المتوقعة بعد تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وتورط سعوديين فيها. كان ثمن نجاة آل سعود من الغضب الأميركي هو التضحية بالحقوق الفلسطينية والتوسل لـ(إسرائيل) بأن تقبل بهذه المبادرة، التي لم تكن أكثر من مناورة إعلامية وسياسية قدّمها مكتب للاستشارات في الولايات المتحدة، وبشّر العالم بها الصحافي الأميركي الصهيوني، توماس فريدمان.
الرفض الإسرائيلي لهذه المبادرة التي دعمتها معظم الدول العربية، بما فيها "الممانعة"، لم يُوقف سباق التطبيع، بل صارت تل أبيب حينها بوابة الأنظمة العربية إلى قلب الرئيس جورج بوش الابن والمحافظين الجدد. ولا تزال الوفود الرياضية الإسرائيلية تصل إلى أبو ظبي والدوحة، فيما تحتفي البحرين بعلاقاتها مع (إسرائيل) علانية.
لكن السؤال، ماذا استجد الآن حتى تقدم سلطنة مثل عُمان على استقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بهذه الحفاوة العلنية، وهي السلطنة المقربة جدًا لإيران وكانت قناة اتصال بين طهران وواشنطن للتوصل لاتفاق بشأن المشروع النووي الإيراني؟
الذي استجد أن النظام العربي بـ"تقدمييه" و"رجعييه" يشعر أنه أمام تحد حقيقي بعد الانتفاضات الشعبية في الدول العربية منذ 2011، بما في ذلك قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، التي ترى أن النظام القديم يتهاوى ويجب منع حدوث ذلك، حتى لو كان الثمن هو التحالف العربي مع (إسرائيل). والتحالف والتطبيع مع نتنياهو قبل إسرائيل، يعني رضا الرئيس الأميركي ترامب وصهره كوشنير.
يعزو هذا النظام العربي التحالف مع (إسرائيل) إلى مواجهة التوسع الإيراني في المنطقة، رغم أن دولا مثل الإمارات وعُمان تقيم علاقات طبيعية مع طهران وتتقاطع المواقف بينها في كثير من الحالات. أي أن "الخطر" الإيراني ليس مبررا حقيقيا للتطبيع، بل هو فرصة لتبرير أو الإعلان عن التطبيع. السعودية ربما لديها فعلا طموحات بأن تقوم (إسرائيل) بمواجهة إيران نيابة عنها، سرا وعلانية، لكن هذه أضغاث أحلام لأن (إسرائيل) يهمها أمن (إسرائيل) وفقط أمن (إسرائيل).
وتبيّن لنا مرارا أن التحالف الإماراتي - الإسرائيلي لم يكن بهدف مواجهة إيران في الحقيقة، بل أن الإمارات استغلت هذا التحالف لاستخدام التقنية الإسرائيلية المتطورة لملاحقة معارضين داخليين وخصوم سياسيين.
لكن (إسرائيل) هي التي تستغل هذه العلاقات للعمل ضد إيران، وتطالب مقابل إنها تسمح لنفسها العمل من الإمارات أو غيرها ضد إيران بأثمان مثل الضغط على الفلسطينيين والتضييق عليهم. أي أنها تستغل البلاد العربية للعمل ضد إيران وتبيعها التقنية ومن ثم تطلب منها مقابلا على حساب الفلسطينيين لأنها قبلت أن تتحالف مع هذه الأنظمة.
وفي هذا السياق، تفهم تصريحات مسؤول فلسطيني لوكالة "أسوشيتد برس"، الجمعة، بأن زيارة نتنياهو لمسقط ليست بهدف الوساطة بالمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، بل بهدف بحث "دور سلطنة عمان الإقليمي"، وهي تصريحاتٌ توافقت مع أخرى لمسؤول أمني إسرائيلي للقناة العاشرة الإسرائيلية، أمس، بأن سلطنة عمان قد تلعب دورا في التواصل مع سورية وإيران.
وهذا ما يعطي انطباعا بأن ما يحصل بالمنطقة ليس مجرد تطبيع مع (إسرائيل) لشراء الرضا الأميركي ومواجهة إيران، بل إن النظام الرسمي في المنطقة يريد التحالف الأمني قبل السياسي مع (إسرائيل) ضد طموحات شعوب المنطقة العربية وغير العربية. فالتعاون المعلن حتى الآن بين السعودية - الإمارات – (إسرائيل) كان استخدام التقنية الإسرائيلية للتجسس داخليا، أي ضد شعوبها.
و"الدور الإقليمي" لسلطنة عُمان لا يمكن تصوره إلا بأن تكون جزءا من الـ"ناتو العربي" المتحالف مع (إسرائيل) برعاية أو حتى بمبادرة أميركية، خصوصا بسبب موقعها الإستراتيجي المهم، لكن، أيضًا، وهو الدور الرئيسي، كقناة اتصال مع طهران ومنها دمشق.
ولا تخيّب تصريحات الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في سلطنة عمان، يوسف بن علوي بن عبد الله، السبت، الظن بأن مسقط لا تطمح للعب دور في المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، إذ قال إن السلطنة تطرح أفكارا لمساعدة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على التقارب، لكنها لا تلعب دور الوسيط. وأضاف خلال قمة أمنية في البحرين، أنّ بلاده تعتمد على الولايات المتحدة ومساعي رئيسها، دونالد ترامب، في العمل باتجاه "صفقة القرن".
أي أن عُمان تتبنّى بالكامل خطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، علمًا بأن هذه التصريحات تأتي بعد أيام من استقبال السلطان قابوس للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي كال المديح لعمان وقال إنها "التي ليس لها مصالح خاصة ولا تريد أن تبيع هنا وتشتري هنا".
"العقل اليهودي والمال العربي"
يحقق نتنياهو حلم شمعون بيرس بثنائية "العقل اليهودي والمال العربي"، فقبل وصوله العاصمة مسقط بساعات، صرح خلال زيارته لمعرض الابتكارات التكنولوجية في تل أبيب، وإلى جانبه نائب الرئيس الصيني، أنه ساد الاعتقاد "دائما أنه إذا حللنا القضية الفلسطينية، فإن هذا سيفتح الباب أمام علاقات مع العالم العربي. وهذا صحيح، إذا كان بالإمكان القيام بذلك. وصحيح أيضا أنه إذا كنا سنفتح الباب إلى العالم العربي ونطبع العلاقات معه، فإنه سيدفع الحل مع الفلسطينيين. ونحن نفعل هذا. والمفتاح هو الابتكارات التكنولوجية، والجميع يدركون هذا الأمر". وأضاف أن "الابتكار التكنولوجي لا يشكل محركا لتحقيق التقدم فحسب، بل هو يشكل أيضا محركا لتحقيق السلام. لا أتكلم بشكل نظري فقط. عدة دول مجاورة تمد الآن يدها إلى (إسرائيل) وتطبع علاقاتها معنا. هذه هي خطوة نحو السلام، بسبب الابتكار التكنولوجي".
لكن سعوديا قد يعني "العقل اليهودي والمال العربي" بأن "العقل اليهودي" يقوم بمواجهة إيران فيما التمويل يكون عربيا. لكن هذه أيضًا أضغاث أحلام لأن (إسرائيل) لن تقوم بالحرب نيابة عن أحد.
إذًا، ما يحصل هو تحالف النظام العربي المتهاوي على وقع الانتفاضات الشعبية، أو تحالف الثورة المضادة مع بنيامين نتنياهو تحديدا، وليس (إسرائيل)، بهدف مواجهة التحركات الشعبية الجوفية في المنطقة، وأولى ضحايا هذا التحالف الحقوق الفلسطينية. وهذا التحالف الأمني، يجري للأسف في ظل صمت أو موافقة صامتة من قبل القيادة الفلسطينية، التي تخشى هي الأخرى أن يطالها البركان القادم، وربطت مصيرها بمصير الأنظمة المتهالكة. أو كما قال قباني بالقصيدة ذاتها: "ما تُفيدُ الهرولَةْ؟ ما تُفيدُ الهَرولة؟ عندما يبقى ضميرُ الشَعبِ حيَّا... كفَتيلِ القنبلة... لن تساوي كل توقيعاتِ أوسْلُو... خَردلَة"!
محليًا، يتوقع من الأحزاب العربية ولجنة المتابعة إعلان موقف صريح من هذه الهرولة نحو نتنياهو؛ أولا لأنها تأتي على حساب الحقوق الفلسطينية؛ ثانيا لأنها تضرب النضال الفلسطيني في الداخل ضد "قانون القومية" على المستوى الدولي؛ ثالثا، المطلوب فك الارتباط الوثيق مع سلطة رام الله، التي تبيّن أنها لا تختلف عن الأنظمة العربية التي "تريد أن تبيع هنا وتشتري هنا".