صوت الهتافات مرتفع جدًا وعلى غير العادة في مثل هذا النوع من التغطيات الصحفية للفعاليات الميدانية.. كان الهتاف لامرأة في قمة الحنق والغضب من تصريحات وزير العمل في حكومة الحمد الله، مأمون أبو شهلا، والذي يمتنع حتى اللحظة عن إقرار صرف رواتب واستحقاقات لأسر شهداء الحرب الأخيرة على قطاع غزة 2014.
ووسط الصخب الدائر كانت تقف في الصف الأخير من الجهة المخصصة للنساء، مسنة ترتدي شالًا من الصوف أسود اللون كلون ملابسها، تردد مع المرددات مطالب بالحصول على مخصصات مالية لأبنائهن الشهداء, قبل أن ينهكها التعب الذي دفعها للجلوس على كرسي دون أن تمل أو تتعب من ترديد الهتافات مع زميلاتها في المُصاب والألم، لتعاود الوقوف مرة أخرى.
شهادة وفاة
المسنة سعاد سكر، حماسها في الهتاف رغم سنها وتعب جسدها الظاهر قادني إليها من بين جموع المتظاهرين، اقتربت منها بحذر وأخشى ما أخشاه أن ترفض الحديث معي حتى لا ينقطع هتافها مع باقي زميلاتها في المكان.
ملامح اليأس والغضب تلاشت عندما بادرتها بالحديث وطلبت منها الإذن بإجراء مقابلة صحفية، لتوافق على الفور، وهي تقول بابتسامة: "أهلا يما"، وما إن بادرتها بسؤالي الأول عن سبب حماسها اللافت حتى أجابتني بدموع منهمرة أجفلت قلبي وكأنني رششت الملح على جرحها النازف.
فتحت حقيبة يدها تبحث عن شيء ما، ثم تناولت منها ورقة ناولتني إياها، ومحرمة استخدمتها لتجفف دموعها المنهمرة والتي حالت بيننا وكأنها تقولي لي: "لا مزيد من الأسئلة"!، فتحت الورقة وإذ هي شهادة وفاة لزوج المسنة سكر، محمد صابر سكر والذي استشهد في حرب 2014 أثناء توجهه لصلاة الظهر، عندما باغته صاروخ أطلقته آلة الحرب الإسرائيلية على المسجد الذي تواجد فيه في شارع النزاز بمنطقة الشجاعية حيث تسكن أسرته، ليرتقي شهيدًا.
عن حالها تقول: "لدي سبع بنات وأربعة أبناء جميعهم متزوجون ويقيمون في منازلهم الخاصة بينما اثنان آخران قصف الاحتلال منزلهم وهم يقيمون معي في نفس المنزل"، مشيرةً إلى أن الأوضاع المادية لأبنائها "على قد الحال".
تعاني "سكر" من مرض القلب إضافة إلى الضغط والسكر، وتحتاج إلى جرعات أدوية منتظمة وهو ما لا يقدر عليه أبناؤها، ما دفعها إلى تقسيم عبء صحتها على أبنائها الأربع حتى لا تثقل كاهل أحدهم وتحمله فوق طاقته.
تقول: "كان عمل زوجي يكفينا ويكفي بناتي وكانت حياتنا مستقرة وبعد استشهاده تبدل الحال ولم يعد لنا ما كان".
مجبورة الخاطر
واستطردت: "آتي إلى هنا كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع للمطالبة بالحصول على راتب شهري لزوجي الشهيد أسوة بباقي أسر الشهداء في الحروب السابقة"، قاطعتها بسؤالي كيف تأتين إلى هنا؟ فأجابت وهي تنظر إلى السماء ويديها في وضعية الدعاء: "الله وحده يعلم".
بادرتها بسؤال آخر، ألم تحصلي على أية مساعدة من أي جهة كانت؟، فقالت: "لا وأنا في هذا المكان منذ ثلاث سنوات وما زلت أحضر في كل يوم ثلاثاء"، لتصمت قليلًا وعيناها تتجولان في المكان ثم تتابع: "لعل وعسى أغدو يومًا مجبورة الخاطر".
حاولت مواساتها، وطمأنتها بأن الله سيكون معها وفي عونها، لكن عينيها الدامعتين رفضتا المواساة، ونظرتا إليّ بحدة، قبل أن يتساءل لسانها: "هو الوزير أبو شهلا أو أي مسؤول فلسطيني يقبل لنساء الشهداء هذا الوضع"، مشيرة إلى جلوسهن في الشارع خلال اعتصامهن المفتوح أمام مقر مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى، في مدينة غزة، للمطالبة بصرف رواتب أبنائهن الشهداء.
وتابعت: "من يقبل لزوجته أو ابنته أن تجلس في الشارع بهذه الطريقة تستجدي راتب زوجها الشهيد والذي هو أملها في العيش بحياة كريمة تكفيها ذل السؤال رغم تواضع هذا الراتب؟"، مضيفةً: "لن يقبلوا هذا الوضع لنسائهم, فيجب ألا يقبلوه على نساء الشهداء الذين بدمائهم قامت المناصب والكراسي".