عندما بدأت منظمة التحرير بالتوجه نحو الخيار السلمي، كانت هناك تغييرات دراماتيكية على ساحة الصراع مع الاحتلال، فمن جهة كانت منظمة التحرير والقوات الفلسطينية قد خرجت من قاعدتها العسكرية وحاضنتها الاجتماعية في لبنان، بعد الاجتياح الإسرائيلي الذي تذرّع بحادثة محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي لدى باريس، ليشن حربه التي كان يعدّ لها العدّة لإبعاد الفدائيين من على الجبال المطلّة لشمال فلسطين المحتلة، والسعيّ للتخلص من الوجود العسكري الفلسطيني من لبنان بعد أن أصبحت البيئة اللبنانية المسيحية بالذات متوافقة مع هذا النهج.
ومن الجهة الأخرى كان الشعب الفلسطيني يخوض تفاصيل انتفاضته الأولى المفاجئة والتي أربكت كل الحسابات، فكانت بمثابة حبل النجاة للواقع الفلسطيني الذي تبلّد في قوقعة اليأس والإحباط لعدم وجود أي آفاق لحلّ عربيّ أو إسلاميّ، وضعف وتشتت فلسطينيّ وذلك للتخلص من الاحتلال وخاصة عقب خروج مصر من دائرة الصراع بتوقيعها اتفاقية منفردة مقابل عودة سيناء بقيود ما زالت مفروضة عليها ليومنا هذا.
أملت منظمة التحرير وقيادتها بأن تكون المسيرة السلمية التي اختارتها طريقاً للحل سهلة سلسة لا تحتاج غير المزيد من الوقت لتحقيق أحلامها وقبلت بتعهدات دولية زائفة ما لبثت أن ذهبت أدراج الرياح، فشرعت بتطبيق التزامات تعهدت بها كان على رأسها إلغاء بنود عديدة من الميثاق الوطني الفلسطيني، وخاصة ما يتعلق بالكفاح المسلح، إضافة إلى وقف الانتفاضة والالتزام بالتعهدات الأمنية التي تَفرِض عليها منع أي عمليات تنطلق من المناطق التي تسلّمتها آنئذٍ.
لم تكن الآمال كما اعتقدت المنظمة، ففي مفاوضات كامب ديفيد عام 2000م، والتي استغرقت أيام طويلة ومركزة وتناولت موضوعات وتفاصيل مهمة تمّ تأجيلها للمراحل النهائية من المفاوضات، اكتشفت القيادة الفلسطينية زيف تلك الوعود، وصُدمت بالمواقف التي أبداها الوفد الإسرائيلي، والتي لا يوجد فيها معاني للتحرر وإرجاع الأراضي التي وقعت تحت الاحتلال عام 1967م، وكذا موقف الوسيط الذي بذل جهوده الحثيثة للضغط على الوفد الفلسطيني للقبول بالدون من الفتات.
بعد خمسٍ وعشرين عاماً، وبعد جولات وجولات من التفاوض ومن المبادرات والمسميات المختلفة لطريق التسوية، باتت الصورة واضحة لا تحتمل أيّ تفسير، فالأحزاب الإسرائيلية يمينها وشمالها تتنافس على عدم التنازل عن القضايا الأساسية المؤجلة وعلى رأسها القدس وعودة اللاجئين، وهما الملفان اللذان حسمتهما أمريكا الوسيط الوحيد للمفاوضات بأنّ القدس عاصمة لـ(إسرائيل) وكذلك إيقاف دعمها لوكالة غوث اللاجئين كمقدمة وسعي لإلغائها.
المسيرة السلمية التي انطلقت بزفّة دولية قبل أكثر من عقدين من الزمان، هي اليوم متوقفة تماماً ولا يوجد في الأفق ما يعيد لها الحياة، وخاصة في ظل الموازين الدولية الرسمية بما فيها الحالة العربية المضطربة والتي تميل لصالح الاحتلال، في المقابل فإنّ الواقع الفلسطيني الداخلي يعيش أسوأ حالاته، فمن ناحية ما زال الانقسام الفلسطيني الناتج عن تعدد البرامج السياسية " برنامج المفاوضات وتمثله حركة فتح وبرنامج المقاومة وتمثله حركة حماس " ما زال هذا الانقسام شاخصاً بكل تفاصيله بل ويزداد عمقاً، ومن الناحية الأخرى لم تقم المنظمة بعرض بديل عن المفاوضات يعيد لها زمام المبادرة، حيث أنها ما زالت تأمل بعودة المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها، متناسية التغييرات الحاصلة على الأرض سواء في المحيط الإقليمي أو الواقع الفلسطيني أو الحال الذي تحياه هذه المنظمة من ضعف وجمود.
يرى مراقبون أنّ الحالة الفلسطينية اليوم بحاجة إلى الكثير من العمل لاسترداد زمام المبادرة وإعادة دواليب الزمن يوم أن كانت حركة فتح توجه بوصلة النضال بعيداً عن المكاتب والرتب والترقيات، إذ تمتلك رصيداً جماهيرياً يحتاج إلى إعادة حسابات لتحقيق الأهداف الوطنية وينفض عنها غبار وآلام عقدين ونصف من الزمن، وهذا يتطلب منها السعي نحو الوحدة الوطنية المبنية على أسس الشراكة الكاملة مع باقي فصائل العمل الوطني، وعلى رأسها إنهاء العقوبات على قطاع غزة كمقدمة لهذه الوحدة، وتحتاج إلى إعادة صياغة برنامجها الوطني من جديد وصياغة الأولويات وفق ذلك.