فلسطين أون لاين

أفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا.. ولو أنهم قالوا "لا أدري"

...

غزة - هدى الدلو

كان الإمام مالك بن أنس، أحد أئمة المذاهب الأربعة المخلد ذكره في أذهان المسلمين، يؤدي عبادة عظيمة، وهي أنه في حال سأله أحد في مسألة ما ولا يعرف الإجابة يقول: "لا أدري"، وعندما آتاه رجل من بلاد ما وراء النهر ليسأله مسألة، فقال له: "لا أدري"، فقال له الرجل: جئتك من مكان بعيدٍ أأخبر الناس أنك لا تدري؟، فقال له مالك: نعم أخبِر من ورائك أن مالك لا يدري، رغم علمه الواسع حيث كان يلقب بـ"إمام أهل المدينة"، فدرس وتعلم على يد التابعين، ولكن في الوقت الحالي نجد حالة من التخبط والتصادم في الآراء والأقوال والسبب في ذلك التحدث بما ليس لهم فيه علم.

مخالفة لهدي النبي

وقال العضو الاستشاري في رابطة علماء فلسطين أحمد زمارة: "إن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان وفضله على سائر خلقه، أوجد له وسائل الحماية التي تصون عرضه ونفسه، وبين له المنجيات والمهلكات، وأرشده لطرق الهداية وحذره من طرق الغواية والضلال، ومن هذه الإشارات الواضحة في كتاب الله سبحانه وتعالى قوله: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا".

وأضاف: "وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، إذ قال لمعاذ عندما حدثه: "يا معاذ أمسك عليك لسانك، فقال معاذ: أو مأخوذون نحن بما نقول يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم أو على وجوههم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم"، وهنا تكمن خطورة الكلمة وخطورة اللسان".

وأوضح أنه يجب على المسلم أن يحفظ لسانه في ما عرف، وما لم يعرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، هذا في ما يعرف ويعقل، ولكن الثرثرة والتحدث دون أن يطلب منه، وهنا مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يتكلم بالكلام لو عده العاد لأحصاه.
وبين أن المشكلة اليوم الأشد خطورة في المجتمع الحديث بغير علم، والجرأة على الفتوى في التشريع والسياسة والطب والهندسة وكل ما يقال في المجالس، فتجد من الناس المفتي والمحلل السياسي والخبير الاقتصادي.

وأشار زمارة إلى أنه أمام هذه المعضلة كان لا بد من وقفة وتذكير، كان النبي صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق لا ينطق عبثًا ولا يحدث إلا بما يعلم، قال الله تعالى: "وما ينطق عن الهوى"، وكان إذا أشكل عليه أمر انتظر الوحي ليسأله، فعندما أقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئنا بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل. فجاؤوا رسول الله فقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح وما هي؟ فقال لهم رسول الله: "أخبركم بما سأَلتم عنه غدا"، وفي ذلك إشارة بأنه أراد أن يسأل الوحي ويستشيره في أمر هؤلاء.

أشد مراتب المحرمات

ولفت بأن بعض الناس اليوم لا يتحدث إلا ظنًا ولا ينقل إلا شكًا، وقد حذر الله سبحانه من هذه الآفة فقال "وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ"، وقد عده الله سبحانه في موطن آخر بالكذب لقوله: "وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون".

وذكر زمارة قول شيخ الاسلام ابن القيم في إعلام الموقعين "مراتب المحرمات أربع مراتب وقد بدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك بالله سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بغير علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه".

وتابع حديثه: "وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله (ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا، وإن كان لا يتعمد الكذب)، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رُؤساء جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، فالإمام مالك لم يجلس للفتوى حتى شهد له سبعون من جلة العلماء بأنه أهل لذلك".

ولفت زمارة إلى أن جزءا من المشاكل والأخطاء التي قد نقع فيها وتلحق بالأفراد ومن ثم المجتمع هو تحدث من لا يعلم، واتباع الناس لحديثه يفاقم المشكلة، وتحدث الناس يأتي بسبب خوفهم على سمعتهم ومكانتهم في نفوس الآخرين، ولكن الأمر الذي يجهلونه أن عدم حديثهم بغير علم سيزيد من ثقة الناس بهم أنهم لا يتحدثون إلا إذا كانوا على يقين تام من الاجابة.

وختم حديثه: "لابد أن يمسك الشخص عليه لسانه، ويحصي عليه كلامه، ويراقب الله في أقواله وأفعاله، الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وصاحب الموطأ التقي النقي العالم المجاهد كان يردد في مسائل كثيرة لا أعلم؛ ويقال له مالك لا يعلم؛ يقول نعم مالك لا يعلم، فكان كبار العلماء وأرباب المعرفة من توجه له المسائل يحيلها إلى عالم آخر ويقول هو أعلم مني بها".