انعقاد المؤتمر الدولي في ظل الواقع القائم وفرض سياسة الأمر الواقع من سلطات الاحتلال الإسرائيلية من استيطان وحصار وتهويد ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وتهجير اهلها قسرا وعمليات القتل الممنهجة بدم بارد في السجون وخارجها، ما هو إلا تكرار للسابق وبيع الوهم وتكرار لقرارات الامم المتحدة دون جدوى.
وحتى الولايات المتحدة قد كشفت عن نواياها وكشرت عن أنيابها المغروسة في ظهر الشعب الفلسطيني المخدوع طوال أكثر من عقدين تحت مسمى الوسيط والراعي.. في مفاوضات بين الفلسطينيين والاحتلال وظهرت الان على حقيقتها لا وسيط ولا راعي ولا تصلح حتى لإدارة الصراع ولا منحازة فقط, بل إنها تتحدث باسم الاحتلال، هي التي أقنعت الفلسطينيين بترحيل القضايا الرئيسة الى الحل النهائي (المقصود بلا نهاية) حتى أوجد لكل منها مخرج قسري بإلغائها جميعا من أجندتها، وكان ما تقوم به من مبادرات بالتنسيق المسبق مع الاحتلال، في معظم الأحيان، حتّى لا نقول في كلّها. لكنّ الجديد مع إدارة ترامب أنّها قرّرت تجاوز القضيّة الفلسطينية من منطلق أن طرحها في المنتديات الدولية طال أكثر مما يجب.
لحسن الحظ.. أصبحت فرنسا من الدول التي استيقظت من الغفلة وأخدت الآن تدافع عن حل الدلتين وترفض القرارات أحادية الجانب.. صح النوم.. فلا حاجة بالطبع الى إعادة التذكير بأنّ فرنسا استطاعت في العام 1974 إقناع "أبو عمار" بالذهاب الى الأمم المتحدة لإلقاء خطاب أمام الجمعية العمومية في مثل هذه الأيّام من تلك السنة، أي قبل أربعة وأربعين عاما بالتمام والكمال، والسؤال المستجد طرحه، أين كنت يا فرنسا من قرار الرئيس ترامب منح مدينة القدس ونقل سفارة بلاده اليها لتصبح عاصمة للاحتلال؟!
لا شك أننا في مأزق لا نحسد عليه - في ظل تعمق الاحتلال وتسارع موجة التهويد مع تقطيع الأوصال، وحصار غزة، وتزايد احتمالات تحول الانقسام إلى انفصال ما بين الضفة والقطاع، وتوسع الاستيطان بمعدلات كبيرة جدًا، وسط تزايد التأييد في(إسرائيل) لإقامة (إسرائيل الكبرى).
ويعمق من المأزق الحالي ما يدور فلسطينيًا حول "صفقة ترامب": تارة بأنها تنفذ على الأرض ولا تنتظر طرحها بصورة رسمية، لدرجة دفعت صائب عريقات إلى الاعتراف بأنها نُفِّذت بنسبة 70%؛ وتارة أخرى الحديث على لسان قيادات مختلفة عن فشلها جراء الرفض الفلسطيني لها، إلى حد زعم البعض بأنها ولدت ميتة؛ وتارة ثالثة الإيحاء بإمكانية التفاوض حولها لتعديلها.
ويتعمق المأزق أكثر فأكثر بردة الفعل الباهتة على إقرار "قانون القومية" العنصري، الذي ينذر بتكريس وشرعنة كل الإجراءات والسياسات والقوانين العنصرية التي نفذتها (إسرائيل) منذ تأسيسها وحتى الآن، وتؤسس لمرحلة جديدة أكثر خطورة، تنتقل فيها (إسرائيل) من إدارة الصراع إلى السعي لحله بما يحقق شروطها ومصالحها وأهدافها، من دون الاستجابة حتى للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
لا شكّ أن اميركا في عهد ترامب قررت ان تكون أكثر انحيازا (لإسرائيل) وأن تلغي خيار الدولتين من قاموسها السياسي. ولا شكّ أيضا أنّ في (إسرائيل) حكومة يمينية هي في الواقع حكومة المستوطنين الذين يريدون تكريس الاحتلال للجزء الأكبر من الضفّة الغربية. لكن رغم كل هذا قد يحدث فجأة تغير في المواقف بإبقاء شعرة معاوية مع واشنطن، حتّى لو كانت واشنطن في غنى عن هذه الشعرة لطالما تشاطر الاحتلال في كل سياساته.
ليس هناك من يريد القطيعة التامة بين الفلسطينيين وأميركا غير (إسرائيل). يمكن الذهاب الى القول إنّ ترامب ينفذ سياسة إسرائيلية. هذا صحيح مئة في المئة، لكن الرد لا يكون بتنفيذ ما تسعى اليه (إسرائيل). ففلسطين ليست دولة عظمى ولم تعد القضية الأولى لدى العرب ودول العالم الثالث أو الرابع أو الخامس.
كان في استطاعة الفلسطينيين البناء على ما تحقق طوال سنوات وصولا الى اتفاق أوسلو، الذي تمّ التوصل اليه مع (إسرائيل) مباشرة. ما كان لاتفاق أوسلو أن تكون له أي قيمة لولا أن الولايات المتحدة اعتمدته وأصرت على أن تكون راعية لحفلة التوقيع عليه وشاهدة على هذا التوقيع.
لا وجود لإدراك لدى إدارة ترامب لواقع أنّ هذه القضيّة قضيّة شعب ذي تاريخ معروف ومثبت موجود على الخريطة السياسية للشرق الأوسط وأن من حقّه أن يكون موجودا على الخريطة الجغرافية أيضا. يمتلك الفلسطينيون هوية وطنية تجمع بينهم على الرغم من كلّ ما تعرّضوا له من خيبات وعلى الرغم من الانقسام العميق الذي جعل قطاع غزّة منفصلا كلّيا عن الضفة الغربية، وبالتالي في استطاعة "أبو مازن" على سبيل المثال إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني في انتظار غد أفضل. عاجلا أم آجلا ستكتشف أميركا أن لا أحد يستطيع إلغاء الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية.
لقد اكتشفنا أخيرًا نفاق المجتمعين الدولي والأممي ويا حبذا لو كنا موحدين يدًا واحدة ولسانًا واحدًا، تلك نقطة مهمّة لا يستطيع أي رئيس أميركي تجاهلها في المدى الطويل لكنّها لا تعني أنّ في استطاعته بيع الفلسطينيين الأوهامَ من نوع المؤتمر الدولي.