منذ توليه للحكم في أوائل عام 2017 قادماً من قلب كارتيل الريع الاحتكاري، كان واضحاً بأنه يمثل أقصى قوى اليمين الأمريكي المتطرف، ليس فقط بسبب سياساته المعادية للمهاجرين وتمسكه بشعار أمريكا أولاً وتفوق الجنس العرقي الأمريكي، بل لسياساته القائمة على التعاطي مع قضايا العالم بلغة المال و"البزنس" والتجارة والصفقات والرشوات والعمولات، وفيما يخص سياساته ومواقفه المتعلقة بنا نحن الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وجدنا أن ما يحكم سياساته ومواقفه، هو النظرة العنصرية الاستعلائية والمحتقرة لكل ما هو غير أمريكي، واللوبي الصهيوني واليمين الأمريكي المتطرف المتحكمان في مفاصل السياسة الأمريكية، حيث عمد إلى منع رعايا سبع دول عربية وإسلامية من دخول الأراضي الأمريكية، ومن ثم "تغول" على الدول العربية الخليجية النفطية، مطالباً إياها بأن تدفع له المال مقابل توفير الحماية لها، وقد تحقق له ذلك في المؤتمر العربي- الإسلامي – الأمريكي في أيار /2017 بالرياض، حيث حصل على مئات المليارات من الدولارات من السعودية والإمارات وقطر والبحرين ...وما زال يواصل ابتزازه لها تحت هذا الشعار، والسياسات الأخطر رغم كل الابتزاز والأموال التي حصل عليها من الدول العربية الخليجية، بشعاره الكاذب والمخادع، بأن إيران هي عدوتها وتسعى لتقويض أمنها واستقرارها، فهو تبنى مواقف أكثر تطرفاً من الصهاينة أنفسهم، فيما يخص قضية شعبنا الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة، حيث عمد إلى نقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس واعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وسعى الى شطب وتصفية قضية اللاجئين، وأغلق مكتب المنظمة في واشنطن وقلص الكثير من الدعم للسلطة والمؤسسات الفلسطينية، واتهمها بدعم وتمويل "الإرهاب" بدفعها لرواتب أسرى وشهداء شعبنا الفلسطيني، وشن حرب شعواء على المؤسسات الدولية التي وقفت إلى جانب شعبنا وحقوقه المشروعة، مثل مجلس حقوق الإنسان واليونسكو ومحكمة الجنايات الدولية، وقلص الدعم المالي لها بنسب كبيرة، وواضح أنه يمهد لكي يلغي وجود المؤسسات الدولية ودورها وصلاحياتها، تلك المؤسسات الناشئة عن نتائج الحرب العالمية الثانية، معتبراً أنها في ظل النظام العالمي الجديد لم تعد تتمشى وتتلاءم مع سياساته الاستعمارية، وفي خطابه في الجمعية العامة تبنى وجهة النظر الإسرائيلية بالكامل وعد نقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس خدمة للسلام، ولم يتحدث لا عن حل الدولتين أو أي حقوق للشعب الفلسطيني، وفيما يخص القضايا العربية، وجدنا أنه واصل سياسة "الاستحلاب" المالي للدول العربية، حيث وجه تهديداً الى منظمة "أوبك" النفطية متهماً إياها باستغلال العالم، ودعاها الى تخفيض أسعار النفط، لأن ذلك يؤثر سلباً على الاقتصاد الأمريكي، وهنا التهديد موجه على وجه الخصوص الى السعودية والإمارات والكويت والجزائر، وهو لم يكتف ب"الاستحلاب" المالي لها، بل يسعى في إطار حربه على ايران، التي يعدها مصدر ومنبع "الإرهاب" والخطر على أمن واستقرار المنطقة و"تصدير الإرهاب" الى دول المنطقة الى اقامة ما يسمى بالحلف العربي السني- الأمريكي من مجلس التعاون الخليجي يضاف له مصر والأردن، لمواجهة السياسات الإيرانية في المنطقة، وهاجسه هنا ليس المصالح العربية وأمن دولها الخليجية، بل مصالح وأهداف دولته ومصلحة (إسرائيل) ووجودها بالدرجة الأولى، حيث يعد أن ايران وأذرعها في المنطقة حزب الله اللبناني، والحشد الشعبي العراقي وأنصار الله اليمني، هي مصدر تهديد مباشر على المصالح الأمريكية ودولة الاحتلال الصهيوني، ولذلك عمد تحت ضغط اللوبي الصهيوني والتحريض السعودي الى إلغاء الاتفاق الدولي مع طهران حول ملفها النووي، وأعاد فرض العقوبات عليها، والتي يفترض أن تبلغ ذروتها في مطلع تشرين ثاني من العام الحالي، بمنع طهران من تصدير نفطها.
أما ما يخص الأزمة في سوريا فلم تكتف أمريكا باحتضان ودعم وتمويل وتسليح الجماعات الإرهابية من "داعش" و"النصرة" وغيرها من الجماعات الإرهابية، بل سعت الى اسقاط النظام السوري وتفكيك الجغرافيا السورية وخلق كيانات اجتماعية متعددة وهشة فيها مرتبطة بأحلاف أمنية مع (إسرائيل)، واحتلت جزءا من الأراضي السورية، تحت شعار كاذب ومضلل وهو القضاء على "داعش"، وأكثر من مرة قصفت الأراضي والمواقع السورية تحت يافطة استخدام الجيش السوري للسلاح الكيماوي، وما زالت تعطل الحل السياسي في سوريا، وتسعى لإطالة أمد الأزمة فيها، خدمة لمصالحها ومصلحة (إسرائيل)، وهي ترى بأن الحل السياسي غير ممكن في ظل تموضع القوات الإيرانية وحزب الله في سوريا.
ترامب لم يلغ فقط الاتفاق النووي مع طهران، بل عمد الى الانسحاب من اتفاقيتي المناخ والتجارة الحرة، واتفاقيات موقعة مع كندا والمكسيك وغيرها من الدول، وشن حروب اقتصادية وتجارية وفرض عقوبات على أكثر من دولة طالت ليس فقط من يفترض انهم أعداء لأمريكا، مثل روسيا وايران والصين، بل طالت حلفاء لواشنطن مثل الاتحاد الأوروبي وكندا و تركيا وغيرها من الدول الأخرى.
خطاب ترامب الأخير في الجمعية العامة يحمل المزيد من الابتزاز والتهديد والوعيد لشعبنا وشرفاء أمتنا العربية، فهو يقول لنا، لا قدس ولا لاجئين ولا تفكيك مستوطنات، وأقصى شيء كونفدراليات فلسطينية – أردنية وفلسطينية – مصرية، وللعرب عليكم بالتطبيع العلني مع (إسرائيل)، وخوض الحروب معها ضد ايران على اعتبار أنها من تهدد أمنكم واستقراركم، وكذلك ليتم العمل على تشكيل حلف طائفي سني عربي لهذه الغاية وهذا الغرض عماده دول الخليج النفطية الممول الرئيس لهذا الحلف وحروبه، ومصر والأردن المجبرتان بسبب ازماتهما الاقتصادية على الانضمام لهذا الحلف.
مطلوب من الدول الخليجية، أن تستمر في دفع الجزية، وأن تستمر في شراء الأسلحة الأمريكية، لكي ترفع من معدلات نمو الاقتصاد الأمريكي ورفاهية الشعب الأمريكي، ومطلوب من هذا الحلف الضغط المستمر على الشعب الفلسطيني ولقيادته من أجل الموافقة على صفقة القرن الأمريكية، والبحث في حالة الرفض عن قيادة فلسطينية بديلة تكون جزءا من هذه الصفقة.
وكذلك عليها أن تكون رأس الحربة في الالتزام بالعقوبات الأمريكية على طهران، وتحمل ما يترتب عليها من نتائج كارثية اقتصادية وامنية على شعوبها، وترامب ذهب الى أبعد من ذلك، حيث هدد منظمة أوبك النفطية والتي عمادها الدول العربية، اذا ما استمرت في رفع أسعار النفط، والذي سينعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي بالتدخل لوقف رفع أسعار النفط، في ظل "الاستحلاب" المالي الأمريكي لها، وهي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة، تقشف وغلاء ورفع الدعم عن السلع الأساسية والمزيد من الضرائب، كل ذلك سيؤدي حتماً إلى المزيد من العجز في ميزانيتها.
خطاب ترامب المتطرف والعنصري والتصادمي، يحول أمريكا إلى دولة مكروهة من معظم دول العالم، ويوسع من دائرة التحالفات والتكتلات العالمية ضدها.. وهو يعبر عن الوجه الحقيقي للعولمة "المتوحشة" ضد الشعوب المضطهدة وفقراء العالم ..إنه الرأسمال الذي لا يعرف الرحمة ولا يعترف بالصدقات الدائمة، بل بالمصالح الدائمة.