محور الشبهة:
إن هذه السنة الصحيحة النسبة للنبي ليست من الدين, ولا المسلمون محتاجون إليها؛ لأن القرآن وحده يكفي المسلمين في كل شؤونهم سواء الشئون الدنيوية، أو الشئون الدينية.
وقد استدلوا على ذلك بقوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] {الأنعام:38} , وقوله تعالى: [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {العنكبوت:51}, وقوله تعالى: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] {النحل:89} , وقوله تعالى: [مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ] {يوسف:111} , وقوله تعالى: [إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ] {يس:69} .
تفنيد الشبهة ونقضها:
أولًا: الرد على استدلالاتهم:
إن الاستدلال بالآية الأولى خطأ؛ لأن المراد من الكتاب فيها هو اللوح المحفوظ، فهو الكتاب أحصى الله فيه ما كان، وما هو كائن، وما سيكون أبد الآبدين, فعلى ذلك يسقط استدلالهم بالآية.
وحتى لو كان المراد من الكتاب فيها القرآن, فلا دليل لهم في الآية على أن القرآن يغنى عن السنة؛ لأن القرآن لم يفصل إلا قليلًا من الأحكام, ويكون معنى احتوائه على كل شيء:
الدلالات الكلية على أصول التشريع، لا أنه فصل جميع الأحكام في كل مجالات الحياة تفصيلًا شاملًا لكل ما يقع للناس في الحياة.
والقول بأن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ هو قول المحققين والمفسرين من أهل العلم, كالبغوي, والبيضاوي وأبي حيان والشوكاني والقرطبي.
وعلى التسليم بأن المراد بالكتاب في هذا الآية القرآن, فالمعنى أنه لم يفرِّط في شيء من أمور الدِّين وأحكامه، وأنه بيَّنها جميعًا بيانًا وافيًا, ولكن هذا البيان إما أن يكون بطريق النص مثل بيان أصول الدين وعقائده وقواعد الأحكام العامة, وإما أن يكون بيان القرآن بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحُججًا على خلقه, وبهذا المعنى تكون جميع أحكام الشريعة راجعة إلى القرآن, فنحن عندما نتمسك بالسنة ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل في الحقيقة بكتاب الله تعالى .
فالكتاب الذي احتوى كل شيء كان أو كائن أو يكون إنما هو اللوح المحفوظ, وعلى تفسير الكتاب بأنه القرآن الكريم، فهو وحي، والسنة وحي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وقد قال عنه ربه تعالى: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3-4}.
وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه, فقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] {محمد:33}, وقال: [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] {الحشر:7} .
أما خطأهم في الاستدلال بقوله تعالى: [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] {العنكبوت:51}, فبيانه أن سياق الآيات يحكي قول المشركين, حيث تساءلوا لو أن الله أنزل على محمد آيات من عنده, بعد أن جردوا القرآن من دلالته الاعجازية, ووصفوه بالسحر والشعر وغير ذلك, فنزلت الآية الكريمة.
أي: ألم يكن القرآن معجزة كافيه لهم في التصديق برسالة الرسول، وهم قد تأكدوا من سموه فوق كلام أعقل العقلاء وأفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وأبين البيناء من الخلق أجمعين؟
وبهذا سقط استدلالهم بالآيتين, وقِس على ذلك من استدلالاتهم بالآيات الأخرى.
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم