فلسطين أون لاين

​دارين طاطور.. دفعت 3 سنوات ثمنًا لقصيدتها

...
تم اعتقال دارين 97 يومًا تنقلت خلالها بين سجون مختلفة
حاورتها/ فاطمة أبو حية:

حوّلت غرفة الإقامة الجبرية إلى ورشة تصوير

القصيدة تُرجمت ولُحنت لتُغنى بلغاتٍ عدّة

كلماتٌ خرجت من القلب، فكانت سببًا في تقييد حرية صاحبتها لثلاث سنوات قضتها بين السجن والإقامة الجبرية والإبعاد عن بيتها.

الشاعرة الفلسطينية "دارين طاطور" من الناصرة، شمالي فلسطين المحتلة، مهندسة ومصورة ومخرجة أفلام سينمائية، كانت قد كتبت قصيدة تحت تأثير حزنها على أطفال وطنها، ترجمها الاحتلال ترجمة خطأ، وأعطاها معاني ليست فيها، وعلى هذا الأساس قرر معاقبتها.

كان بإمكانها أن تُبدي الندم أمام محكمة الاحتلال لينخفض حكمها إلى أشهر معدوداتٍ فقط، لكنها لم تفعل، وأخيرًا نالت حريتها في العشرين من الشهر الجاري بعد قضاء حكمها.

ترجمةٌ خاطئة

في الثالثة والنصف من فجر الحادي عشر من أكتوبر عام 2015، داهمت البيت قوة كبيرة من شرطة الاحتلال والوحدات الخاصة، لاعتقال "دارين"، رغم عدم وجود أمر اعتقال.

سألت عن سبب اعتقالها، فردّ الشرطي: "أنت بتعرفي"، فيما هي لا تعرف شيئًا يصلح لأن يكون سببًا لاعتقالها، فطمأنت أهلها: "ما تخافوا هلأ برجع".

بدأت التحقيقات، وتكررت لنحو خمس جلسات، عرفت خلالها أنها معتقلة بسبب قصيدة كتبتها ترفض فيها الاحتلال، وأيضا بسبب صورة نشرتها عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، والصورة عبارة عن خلفية سوداء، مكتوب عليها "أنا الشهيد"، وقد نشرها نحو ألف ناشط، اتفقوا على توحيد صورهم على الموقع بعد حادثة قتل الطفل محمد أبو خضير.

القصيدة، والصورة الشخصية، كانتا "عملًا تخريبيًّا" بحسب التُهم التي وجهها الاحتلال لـ "دارين"، وقد ترجم القصيدة من العربية للعربية شرطيٌ يعرف العربية، ترجمها خطأ، ما جعل الأمر أكثر تعقيدًا.

58 جلسة محاكمة، دارت كلها على أساس الترجمة الخطأ التي أعطت القصيدة معاني ليست فيها، رغم استعانة فريق المحاماة برأي بروفيسور في الأدب ومتخصص في الترجمة من العربية للعبرية، والذي قدّم ترجمة وشرحًا دقيقين، لكن القاضية اكتفت بأخذ الترجمة منه، وصممت على الإبقاء على شرح الشرطي.

دام اعتقال "دارين" 97 يومًا، تنقلت خلالها بين سجون الجلمة وهشلمون والدامون، ثم حُكم عليها بعدها بالإقامة الجبرية مع الإبعاد من بيتها، وتلا ذلك حكمٌ آخر بالاعتقال مجددًا.

أصعب من السجن

عن الإقامة الجبرية، تتحدث دارين لـ"فلسطين": "في 13 من يناير من عام 2016، قررت المحكمة وضعي قيد الإقامة جبرية مع الابتعاد عن بيتي، وكان مقر الإقامة حسب الحكم مستوطنة (كريات اونو)، أرسلوني للمستوطنة رغم أن الدعوة المُقامة ضدي تقول إنني (خطر على الجمهور اليهودي)، وهذا التناقض يؤكد أن الاحتلال واثق من أني لا أمثل أي خطر".

تقول: "في يوليو من نفس العام، سُمح لي بإكمال فترة الإقامة الجبرية في بيت عائلتي، ولكن مع نفس القيود".

وتضيف: "الإقامة الجبرية في المستوطنة كانت الفترة الأصعب خلال السنوات الثلاث، حتى أنها كانت أصعب من الاعتقال في بعض تفاصيلها".

وتتابع: "عشتُ في بيئة غير بيئتي، وتحت ضغط نفسي واقتصادي كبيرين، فأنا ممنوعة من التحرك بحرية، ومن استخدام الإنترنت، ومن زيارة عائلتي لي، وغير ذلك الكثير من الممنوعات التي تعني القضاء على الحياة الاجتماعية للإنسان".

وتواصل: "الإقامة الجبرية تغير نمط حياة العائلة كلها، وليس المتهم وحده، فعائلة الشخص مُجبرة على كفالته لألا يخرج عن نطاق الإقامة المحدد له، مع تحمل تكلفة الإقامة في حالة كان الإقامة في مكان آخر غير بيت الأسرة".

وتوضح: "استأجر أهلي بيتًا في كريات أونو، وأقام معي أخي وزوجته، وكانا يتقاسمان أوقات (حراستي)، لتلبية شروط الإقامة، لقد غيرا الكثير من تفاصيل حياتهما لأجلي، كمواعيد توجههما إلى العمل".

في كثير من الأحيان كانت "دارين" تشعر بتأنيب الضمير لما سببته من تغيير في حياة أخيها وزوجته، لكن ما كان بيدها حيلة، فالبديل عن الإقامة الجبرية هو السجن.

توضح: "ما كان يخفف عني آنذاك، وقفة الإعلام معي، فقد انتشرت قضيتي عالميًا رغم كل الظروف، وتم ترجمة القصيدة بخمس عشرة لغة، ولُحِّنَت، وستُغنَّى بعدة لغات، وهذا بالنسبة لي يعني فشل الاحتلال في تكميم صوتي".

المحاكمات مستمرة، القاضية متمسكة بالتفسير الخطأ للقصيدة، "دارين" ما تزال ترفض الاعتذار وإبداء الندم على نشر القصيدة والصورة، وبالتالي استمرت القضية لثلاث سنوات، حتى أن القاضية قالت لها في إحدى الجلسات إنها ما زالت معتقلة بسبب هذا الرفض، ولولاه لانتهت القضية في تسعة أشهر فقط.

في 30 من يوليو الماضي صدر حكم باعتقال "دارين" مجددًا لخمسة أشهر، وبموجب هذا الحكم كان الحادي والعشرين من الشهر الجاري هو موعد الإفراج عنها، لكن الاحتلال أفرج عنها قبل يوم من انتهاء الحكم، والسبب كما تقول، هو إفساد خطة استقبالها التي كانت ستجتمع لنقلها وسائل الإعلام.

لا لتكميم الأفواه

بالعودة إلى القصيدة التي كانت سببًا في اعتقالها، تقول دارين: "ملف الإدانة المكون من 90 صفحة يشمل تفسيرات لا علاقة لها بالمعاني الأصلية لما كتبته، والقاضية كانت تفسرها كما يحلو لها رغم أنها لا تعرف العربية".

وتضيف عن ظروف تأليف القصيدة: "كتبتها متأثرة عن الطفل محمد خضير الذي قتله مستوطنون في القدس حرقًا، وكذلك عن الرضيع علي دوابشة الذي استشهد إثر حريق أشعله مستوطنون في بيت عائلته، لقد قلبت الحادثتين كل موازيني، وحرّكتا فيّ الرغبة للكتابة".

وتتابع: "بدأت حياتي مع الانتفاضة الأولى، وعايشت أوضاعًا كثيرة كتبت عنها، وألّفت الكثير من القصائد عن الاحتلال، ولم يجعل الاحتلال أيًا من قصائدي تهمة يحاكمني عليها، وكذلك الحال بالنسبة لشعراء كُثر يكتبون مثلما كتبت، لذا لم أتوقع أبدًا أن تؤدي القصيدة لاعتقالي".

وبناء على ذلك، باتت دارين متأكدة أن اعتقالها لا علاقة له بالقصيدة، وإنما "هو رادع لفلسطينيي الداخل المُحتل، ورسالة من الاحتلال مفادها أنه اعتقل شاعرة، وعلى الآخرين الخوف والسكوت حتى لا يلاقوا مصيرها".

مدرسة الصبر

عن ذكريات السجن، وتأثيره في حياتها، تقول دارين: "سمعت عن السجن وظروف الاعتقال كثيرًا، لكن ليس راءٍ كمن سمع، فعندما جرّبته اكتسبت الكثير من الصفات، وتعلمت العديد من دروس الحياة".

وتضيف: "بالتجربة، أدركت المعنى الحقيقي للاعتقال والتفتيش العاري والحياة الاجتماعية المُعاشة بالسجن، إنها حياة جميلة رغم كل ما فيها من قسوة".

وتتابع: "في تلك الحياة الاجتماعية، كنّا نحن الأسيرات كالجيران، البيوت عبارة عن زنازين، وفي كل زنزانة عائلة، والعائلة تحدد نظام حياتها، ولو أن إحدى أفراد العائلة تلقت خبرًا جميلًا نفرح معها، وإن حزنت نحزن لأجلها، نأكل ونضحك ونلعب ونمارس الرياضة معًا، حتى النفس نتشاركه، فلو أن إحدانا تنفست تسمعها الأخريات، وهذا يعني أن لا حد أدنى من الخصوصية، حتى المشكلات كانت موجودة، كما هي المشكلات بين أفراد الأسرة الواحدة، ومع ذلك تطغى على المكان روح التعاون والإنسانية".

وتبين: "دخلت السجن إنسانة، وخرجت منه إنسانة أخرى، وأهم صفة اكتسبتها هي التكيف مع الظروف التي أعيشها مهما كانت سيئة، وتحويل المصاعب إلى أشياء جميلة، فالاعتقال بالنسبة لي كان مدرسة في الصبر".

وتوضح: "تعرفت إلى الأسيرات، ووجدت فيهن قدواتٍ في الصبر والمقاومة، وأكثر من أثّرت فيّ الأسيرة لينا الجربوني".

ومن بين المواقف الكثيرة التي عايشتها في السجن، ثمّة موقف لا يفارق ذاكرتها، تقول عنه: "في بداية اعتقالي، التقيت بالأسيرة إسراء عابد، وكانت حينها مُصابة، وأنا لم أرَ إنسانًا مصابًا من قبل، وعندي خوف شديد من النظر إلى الجروح وتغيير الضمادات، لكنني فعلت ذلك لإسراء، فكنت أنا التي أعتني بها، وحتى الآن لا أنسى شكل الجروح ولا ألمها، ولا أظن أنني سأنسى مهما مرّ الوقت على هذا الموقف".

ورشة التصوير

ماذا أنجزت دارين في السنوات الثلاث الماضية؟ تجيب: "كان للشعر النصيب الأكبر من وقتي في السجن، فقد كتبت نحو 300 قصيدة، وحاليًا لدي ديوان جاهز للطباعة، إذ إنني حولت كل موقف مررت به إلى قصيدة، فكتبت عن كل شيء، حتى حشرات (البقّ) وتعايشي معها، وكذلك كتبت روايةً عن تجربتي".

ولأنها مصورة ومخرجة، كان لابد أن تلتقط من حولها أفكارًا تحولها بعد نيل الحرية إلى صورٍ وأفلام، وعن ذلك تقول: "في فترة الإقامة الجبرية، وفّرت لنفسي أجواءً مناسبة للتصوير، فحوّلت غرفتي إلى ورشة تصوير، والتقطت من داخلها الكثير من الصور، باستخدام أدوات بسيطة، مثل قطعة كرتون، ومصباح، وغطاء السرير، وسأعرض الصور في قريبًا في معرض خاص".

وعلى ذكر العمل، تسعى ضيفتنا حاليًا للحصول على فرصة عملٍ جديدة، وقد تواصلت مع أكثر من جهة لكنها وجدت تخوفاتٍ من تشغيلها كونها أسيرة سابقة، ومع ذلك فهي مصممة على العمل حتى لو اضطرت لإطلاق مشروع خاص.