فلسطين أون لاين

​كتاب يوثّق معركة الاحتلال مع حركة المقاطعة

...
غزة - فلسطين أون لاين

يعود تاريخ المقاطعة الحديث في المدن والقرى الفلسطينية إلى عشرينيات القرن المنصرم، حيث شحنت الحركات الوطنية والثورية إبان الاحتلال البريطاني همم الفلسطينيين لمقاطعة البضائع الصهيونية، التي ما لبثت أن تغلغلت في أسواقهم.

وكانت أول محاولة للحركة الوطنية الفلسطينية لاستخدام المقاطعة سلاحًا ضد القوة المستعمرة عام 1922، عندما قاطع الفلسطينيون انتخابات المجلس التشريعي، التي نظمها الاحتلال البريطاني بغية تمكين الصهاينة من المؤسسات العامة.

جاء ذلك في كتاب بعنوان "السياسات الصهيونية لمحاربة حركة المقاطعة وطرق تفكيكها"، أصدره المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات) في رام الله، للباحث معاذ مصلح.

ومع نهوض العمل السياسي، وزيادة الوعي الشعبي، والتطور الحزبي في فلسطين، الذي شهد ذروته عام 1936، فقد أُعلن العصيان المدني، ودخل الفلسطينيون في حملة مقاطعة لكل أوجه الحياة التي سيطرت عليها سلطات الاحتلال البريطاني، حتى تدخلت الحكومات والوجهاء العرب، بطلبٍ من المندوب السامي البريطاني، لتقنع القيادات الفلسطينية بإيقاف الإضراب.

مقاطعة ثم خضوع

واستمرت الحكومات العربية بفرض المقاطعة على دولة الاحتلال حتى ثمانينيات القرن الماضي، حيث قام الرئيس المصري أنور السادات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، التي آذنت بتخلي مصر عن القضية الفلسطينية، فتم إلغاء بنود المقاطعة من القانون المصري عام 1980. وتباعًا، بدأت الدول العربية إلغاء مقاطعة الكيان الصهيوني، بعد تطبيع منظمة التحرير الفلسطينية للعلاقات مع دولة العدو، إثر توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.

وشهدت انتفاضة 1987 حملات مقاطعة شعبية في فلسطين كان لها الأثر الكبير في إلحاق الضرر بمنظومة السيطرة الإسرائيلية، إلى أن خفُت بريق الانتفاضة، ودخلت القضية في حالٍ جديدة اتسمت بالتطبيع الاقتصادي والسياسي والأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.

وأدت حالة التطبيع الناشئة إلى هدم أُسس المقاطعة في فلسطين والدول العربية في تسعينيات القرن المنصرم، وبدأ الكيان الصهيوني جهودا لتبييض صورته في العالم، وبين الشعوب العربية، من خلال البرامج والأنشطة التطبيعية التي زادت واتسعت، بدعمٍ رسمي فلسطيني أحيانًا. وباشتعال شرارة انتفاضة الأقصى عام 2000 بدأت تنشط حركات المقاطعة من جديد، وهذه المرة في الدول الأوروبية وأميركا الشمالية.

وكانت بداية حملات المقاطعة المنظمة في الجامعات البريطانية التي أصدرت بيانًا تدعو فيه إلى مقاطعة الاحتلال أكاديميًا عام 2003. تبع ذلك إعلان بيان المقاطعة الأكاديمية والثقافية عام 2004، ومن ثم أطلقت المؤسسات الأهلية الفلسطينية عام 2005 نداء المقاطعة، بما سُميت "حركة مقاطعة (إسرائيل) وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها"، والمختصرة بـ(BDS)، التي كانت بإلهامٍ من حركة المقاطعة الجنوب إفريقية.

بهذا التسلسل التاريخي للمقاطعة الفلسطينية والعربية للعدو الصهيوني ينطلق الباحث مصلح نحو مناقشة وتحليل ونقد واستشراف السياسات الصهيونية لمحاربة حركة المقاطعة وطرق تفكيكها.

وفي مقدمة الكتاب يتطرق الباحث إلى حركات المقاطعة في التاريخ، فيذكر أن مصطلح المقاطعة متسع الأفق، وقد يشمل الكثير من الحملات الاجتماعية والسياسية، بما يشمل الإضرابات المختلفة؛ فالمقاطعة لغويًا هي "الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصاديًا أو اجتماعيًا وفق نظام جماعي مرسوم".

ويضيف أنه يمكننا أن نعرّف المقاطعة الفلسطينية بأنها "فعل الامتناع عن معاملة المستعمر اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو أكاديميًا أو ثقافيًا أو سياسيًا، وفق نظامٍ جماعي متفق عليه فلسطينيًا".

حملات وسياسات

ويشير إلى أنه في حال العودة إلى التاريخ، نجد حملات مقاطعة عدة، أشهرها: مقاطعة قبيلة قريش في مكة لبني هاشم، والمقاطعة الإيرلندية، ومقاطعة دولة البيض في جنوب إفريقيا، إلى جانب مقاطعة الهنود للاستعمار البريطاني.

أما عربيًا، فإن الباحث يبين أن لبنان كانت من أولى الدول التي سنت قانونًا للمقاطعة عام 1955 (قانون مقاطعة إسرائيل). وتبعتها الدول العربية الأخرى بنصوصٍ قانونية مشابهة؛ فشهدت تلك السنوات تحول المقاطعة من سلاح محلي إلى سلاح إقليمي يسعى إلى التضييق على الكيان الصهيوني، ومعاقبة الشركات العالمية الداعمة له.

ويذكر المؤلف أن أطر حملة المقاطعة استمرت بالتبلور حتى تم تحديد إطار لها عام 1955، تضمن ثلاثة مستويات من المقاطعة: اختص المستوى الأول بمقاطعة التعامل مع الكيان الصهيوني بشكلٍ كامل؛ أفراد ومؤسسات.

أما المستوى الثاني فقد اختص بمقاطعة الشركات العالمية التي تستثمر في الكيان الصهيوني ووضعها في قائمة سوداء، وتضمنت -أيضًا- البواخر التي تحمل بضائع من وإلى الكيان، فلم يسمح لها بالمرور عبر قناة السويس، أو الرسو في الموانئ العربية.

وتولى المستوى الثالث مقاطعة الشركات التي تتعامل مع الشركات من المستوى الثاني، والتي وُضعت في القائمة السوداء.

ويتطرق المؤلف إلى الحديث عن هيكلية السياسات الإسرائيلية لمواجهة حركات المقاطعة، فيذكر أن الاحتلال يراقب كل صغيرة وكبيرة تصدر عن أي مؤسسة داعمة للمقاطعة أو للفلسطينيين، وأنه بموازاة هجوم (إسرائيل) المباشر على حركة المقاطعة وناشطيها، تقوم مجموعات الضغط الصهيونية في دول العالم بمجهودٍ كبير في حمل تلك الدول على مشاركة الكيان في حربه ضد المقاطعة، فانضمت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى لذلك الحلف، وانقسمت مهامها إلى ثلاثة أدوارٍ رئيسة؛ تقوم بعض الدول والمؤسسات بالتحريض على حركة المقاطعة الفلسطينية، وتصفها بالمعادية للسامية.

وفي الآونة الأخيرة، نشطت حملات المقاطعة المضادة التي تشجعها بعض الدول كأميركا، من خلال نصوص قانونية تقوم بدعمها والتصديق عليها. ويتجلى ثالث وأهم أدوارها في خدمة الحملة الصهيونية بإقرار قانون عقوبات لردع كل من تسول له نفسه دعم حركة المقاطعة، أو أي فرد أو مؤسسة ذات صلة بها. وتستخدم هذه الدول المال العام وسيلة عقاب بقطعها عن المؤسسات والجهات الداعمة للفلسطينيين.

ويذكر الباحث أنه رغم ما حققته الحركة من إنجازات غير مسبوقة بدأت بالتأثير على الرأي العام العالمي بشكلٍ كبير، فإنه يجب عليها الانتباه من المغالاة في تقدير الانتصارات، أو صنع انتصارات وهمية.

ويشير إلى أنه يتوجب على حركة المقاطعة مراجعة خطابها بشجاعة، واستغلال فرصة تاريخية، لن تتكرر، لتأصيل وتجذير خطاب وسردية النضال الفلسطيني. "فنحن نعيش حاليًا في سياق سياسي وإقليمي يتسم بالفوضى، إذ يتم خلق خطابات وسرديات جديدة في المنطقة. وكما يبدو إلى الآن، فإن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بعيدون عن اتخاذ دور قيادي في صياغة تلك الخطابات الجديدة، بل يكتفي المعظم بتبني خطابات وسرديات تصدّرها لنا الدول الغربية".

وينهي المؤلف خاتمة كتابه بالقول: حان الوقت للحركة التحررية الفلسطينية للانعتاق من دائرة ردّ الفعل السلبية، والدخول في طريق جديدة يتم التخطيط لها بشجاعةٍ وبتمعن، وليس من الضير العودة إلى نقطة الصفر إذا تطلب الأمر.

المصدر- الجزيرة نت