"بعض الناس يتلاشون من أمامنا كما يتلاشى غبش الصباح عندما تلامسه خيوط الشمس الأولى.. هؤلاء لا تأسف عليهم، ولا يحزن قلبك أنك خسرتهم".
وقف أمام كرسيها المتحرك يلملم شعثه، ويجمع كلماته، بينما كان يعمل جاهداً على تجنيب عينيه أن تلتقيا بعينيها:
- اعذريني يا ناريمان، لا أستطيع أن أكمل معك الدرب، يجب أن أعيدك إلى بيت أهلك..
نظرت إليه نظرات غائرة، لم تستطع أن تقول كلمة واحدة أو حتى أن تشير إليه أن لا يفعل، فبعد الحادثة ثَقُلَ لسانها وأصبحت عاجزة عن الكلام، لتتكلم أصابعها بدلاً عن لسانها.. أجرى جميع الترتيبات اللازمة، وفي ذاك المساء، حمل ملابسها، وحقيبة دوائها، ونقلها وكرسيها المتحرك إلى سيارة أجرة أوصلتها إلى القرية التي يقيم فيها أهلها، وعلى باب بيتهم، كان أخوها ينتظرها.. أنزل العربة والملابس أولاً ثم حملها من السيارة.. كانت الدموع تنفطر من عينيها.. شعور بالانكسار يطغى عليها.. وهزيمة نكراء ألقت بها في واد سحيق.
ثقل لسانها أكثر من ذي قبل، وفقدت كل قدرة على التعبير عن ما يجول في نفسها.. سيل جارف من الكلمات كان يفيض داخلها، تتمنى لو تكتبه.. لو تقوله فيسمعه من حكم عليها بالإعدام والرغبة في الحياة ما تزال تنبض في عروقها:
- كيف طاوعك قلبك أن تفعل ذلك؟ رافقتك خمسة عشر سنة بحلوها ومرها، أنجبت لك أبناءك الستة، واعتنيت بك وبهم وبوالديك أيضاً دون تذمر أو شكوى.. منحتكم حبي وصحتي واختزلت أيامي في الاهتمام بكم.. وكأني أعيش فقط من أجلكم.. أذهب إلى عملي في الصباح وقد أعددت لكم وجبة الإفطار وشطائر الصغار التي يحملوها معهم في حقائبهم، وطعام الغداء، ونوعاً من الحلوى..
وما إن أعود من العمل حتى أسارع إلى المطبخ، أضع طعام الغداء على الموقد، ثم أتحول إلى غرفتي، أستبدل ملابسي على عجل، وأسارع إلى الصغار لأنظف أيديهم ووجوههم وأبدل ملابسهم.. أتناول طعامي وأنا أتابع الصغار، ثم أنتقل إلى ترتيب البيت وتنظيفه، وغسل الملابس وكيِّها، ومساعدة الصغار في دروسهم، ورعايتهم في شؤونهم.. وأغدق عليكم جميعاً بحبي وحناني واحترامي.
تحملت وحدي الكثير من ضغوط الأسرة التي كنت تنأى بنفسك عنها دائماً، لأنك مشغول بعملك، وكأنك أنت وحدك من تعمل! برغم أنك كنت تعطي لنفسك فرص كثيرة للراحة والنوم والترفيه ما لا يتاح لي جزء يسير منه.. وإن شعرتُ بالإنهاك والإعياء واشتكيت طالبة المساعدة، تتهمني بأنني قليلة الصبر كثيرة التذمر.
أسأل نفسي: تصور لو أن الأدوار تبدلت، فكنت أنت من أُصبت وأصبحت حبيس كرسي متحرك، ولسان ثقيل، أكُنتُ سأتركك وأمضي باحثة عن حياة جديدة؟ أكنت سأسلبك أبنائك وأرحل بهم بعيداً عن عينيك لأنني سئمت رعاية مُقعد لا فائدة تُرجى منه؟ أكنت سأحسبها: بأن فقدانك لوظيفتك بسبب وضعك الصحي سيشكل عليَّ عبئاً مادياً ما كان ينقصني ولست مستعدة لتحمله؟؟
لو أن ذلك حدث لك.. أقسم القسم تلو الآخر بأنني ما كنت سأتخلى عنك، بل كنت سأبقى أحبك ومتمسكة بك.. سأزيد من اهتمامي بك حتى لا تشعر بالفرق فتدخل التعاسة قلبك.. سأبقى بجانبك أشد أزرك وأعينك.. وستبقى رب البيت وسيده.. فأنت زوجي ووالد أبنائي الأحبة.
يا من كان زوجي.. لست آسفة على ما حدث.. فالظروف القاسية والمنعطفات الحادة هي التي تبرز وتظهر معدن كل منا.. هل هو معدن أصيل جوفه شفاف يفيض جمالاً ولمعاناً وأصالة حتى وإن اكتسى سطحه بالغبار والرواسب، أم أنه خليط من المعادن العابرة المؤقتة التي لا أصل لها، التي تضمحل عند أول منحدر برغم بريقها الخارجي الذي يخطف الأبصار.
في أيامي الماضية كنت أنت المعدن البراق الذي خطف اهتمامي وبصري.. ولكن ما إن تبدل حالي حتى انطفأ بريقك وانكشف زيفك.. وأحمد ربي أنني لم أمضي المزيد من عمري برفقتك..