لقد كان اختيار حدث الهجرة للتأريخ الإسلامي في غاية الحكمة والصوابية. لقد كان الاختيار دليلاً قاطعاً على أن من أهم أهداف هذا الدين تحقيق السيادة السياسية لاتباع هذا الدين ، فلا يمكن أن يبقى أتباعه مستضعفين في الأرض يتخطفهم المستكبرون الظالمون . لا يمكن أن يرضى دين السماء بأن يبقى محشوراً في زوايا القلب أو في زوايا مسجد بينما سياسة البلد واقتصاد البلد بيد المترفين الفاسدين ، لا يمكن أن يقتصر دوره في عالم المشاعر أو حتى السلوك الذي يهذب الأخلاق ويجعل من النفوس هينة مطواعة لتأتي الذئاب البشرية المفترسة فتسومها سوء العذاب وتطؤها بأقدامها ولا ترى فيها إلا خدماً وعبيداً ونفوساً خانعة . وأن يتنمر عليها حكام مرتزقة يزيدونها ذلة ومسكنة ويسخرون طاقاتها وثروات بلدانها للمستعمر ولأعداء الأمة فقط من أجل حماية عروشها وبقاء حكمها .
ماذا ينتج الدين الاسلامي لأتباعه هذه الأيام ؟ هل ينتج سيادة وتمكيناً وحرية وكرامة وتنمية وازدهاراً ورقياً حضارياً منافساً للآخرين ؟ عندما نرى حاكماً يبيع البلد بكل ما فيه وشعبه في المحراب ساجد، وحول الكعبة طائف، ولسانه ذاكر، وعلى الصلاة محافظ... هل هذا هو المنتج الصحيح لهذا الدين ؟
لو لم تحدث الهجرة وبقي محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه مستضعفين في مكة وسلموا بالسيادة السياسية والاقتصادية لأبي جهل وأبي سفيان ومن كان متحكما بمفاصل الحياة العربية حينذاك ، لو رضي هذا الدين الجديد بهذه السيادة وتنازل عنها لمن كان متصدرا لها . لو تصالحوا على ذلك ، السياسة لمن كان بحكم واقع تلك الأيام أهلا لها أو لمن تغلب على البلد وسود نفسه بقوة المخابرات واجهزة الامن والجيش والاعلام المفبرك ، سيبقى إذاً أتباع هذا الدين أذلة على الناس ولا شأن لهم ولا مكانة ولا سيادة، وستبقى أحوال الناس في ظلم وفساد ومخمصة وضلال ، وستبقى ثروات البلد بأيدي قلة قليلة مترفة بينما السواد الأعظم مسحوقون تحت خط الفقر وفي ظل حالة من الاستعباد الاجتماعية والاقتصادية ، لماذا؟ لأن السيادة والسياسة تم التفريط بهما والتنازل عنهما .
جاء حدث الهجرة (الذي اعتمد نقطة تحول وبداية للتأريخ الاسلامي من قبل سادة الامة الحقيقين وخير من ترجم هذا الدين ترجمة أمينة الى واقع ملموس ) ليؤكد تأكيدا عمليا أن الدين الخاتم لكل الديانات السماوية هو دين السياسة والسيادة ولا يمكن أن يسمح لسياسة أو سيادة ان تسوسا أو تسودا دون ان تنطلقا من هذا الدين ودون أن تضعا بالحسبان مقاصد هذا الدين وأهدافه في الحياة ، فلا يمكن الفصل بين الدنيا والآخرة أو بين الدين والحياة بمفهومها الشامل أو يُجزِّئ أحكام الحياة. هذا يُحتكم به لله وهذا للبشر ، هي جملة قرآنية واحدة " إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه " .
فرق شاسع ان نتصور هذا الدين دون حدث الهجرة بكل مدلولاتها العظيمة ، ما بعد الهجرة يختلف كلياً عن ما قبل الهجرة ، كانت في مكة فترة بناء وتأسيس لأناس قادرين نفسياً وروحياً وفكرياً على بناء دولة وعلى المنافسة الحضارية على مستوى العالم ثم بعد الهجرة كان البناء الجماعي المحكم لهذا الفريق الذي سيدخل النادي العالمي للدول والإمبراطوريات التي كانت سائدة في ذاك الزمان ثم يسود عليها ويتقدمها جميعاً .
واليوم لنتفكر جيدا في هذه المناسبة.. أين نحن على صعيد فردي أولا من البناء النفسي المعنوي والفكري؟ هل نشعر بهذا التميز الفريد الذي يبنيه الاسلام في نفوس أبنائه ؟ وعلى صعيد الامة ودورها بين الامم وبعدها أو قربها من السياسة والسيادة التي يزرعها هذا الدين وينميها في واقع الأمة ..
ودور الفرد ودور الفريق متكاملان في حياة أمة لا ترضى الدنية في دينها ولا ترضى بالاستضعاف ان يكون دائما في واقعها ومستقبلها .. فليبحث كل منا عن دوره وموقعه في دين السياسة والسيادة فهذا دوره وهذا نتاجه قادم الأيام بإذن الله .