فلسطين أون لاين

​توظيف الاختلاف لتحقيق الائتلاف

غالبًا ما تحمل كلمة اختلاف مضامين سلبية، وتشير إلى معان غير إيجابية، مع أنه -أعني الاختلاف- سمةُ الكون ومصدر ثرائه وتنوعه، ومصدر روعته أحيانًا كثيرة، فاختلاف الناس في جمالهم، ولغاتهم، وذكائهم، وإمكاناتهم هو ما يكسب هذا الكون جماله، بل هو ما يجعلنا نكتشف الجمال أصلًا، فلولا التنوع الذي هو صورة من صور الاختلاف لبدا لنا الكون شيئًا واحدًا.

من الناحية الشرعية لم يكن الخلاف دائمًا مذمومًا، وما يمكن أنْ يُقرأ في مصادر التشريع ونصوصه عن ذم الخلاف كقوله (تعالى): "وَلا تَفَرَّقُوا" إنما هو في الخلاف المهددِ للأمة في وحدتها، المضعفِ لقوتها والمذهبِ لريحها، وكقوله (تعالى): "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" إنما هو في الاختلاف الناشئ عن الهوى من بعد مجيء البينات، ومعرفة الحق.

أما ذلك الاختلاف الذي مصدره إعمال الفكر والعقل في مجالات الحياة المختلفة الإدارية، والسياسية، وما كان اجتهادًا في نصوص الدين من أهله وفي محله؛ فلا يمكن أن يكون محلًّا للذم، وكيف يكون محلًّا للذم، وهو نتيجةٌ طبيعة لما أودع الله هذا الإنسان من الاختلاف في الإمكانات والقدرات؟!، وهو كذلك نتيجة حتمية بالنظر إلى طبيعة الدلالات النصية، وغير النصية، ولا يزال المسلمون ينظرون إلى هذا النوع من الاختلاف على أنه سعةٌ ورحمة، وليس نقمةً، حتى اشتهر بينهم أنَّ اختلاف هذه الأمة رحمة، وهذا المقولة لها أصل في كلام وفعل سلف هذه الأمة؛ فقد اختلف أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى قال عمر بن عبد العزيز: "مَا سَرَّنِي لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَمْ يَخْتَلِفُوا، لأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ تَكُنْ رُخْصَةٌ"، فانظر كيف جعل عمر الاختلاف مصدرًا للسعة والترخص، وهو من دواعي الائتلاف، وكذلك إن جماعةً من العلماء ذهبوا إلى أن كل مجتهد مصيب، ونصروا قولهم هذا بأن الصحابة اجتهدوا واختلفوا, وأقر بعضهم بعضًا على قوله, وسوغ له أنْ يعمل به, وإن كان مخالفًا لقوله ومؤدى اجتهاده, وسوغوا للعامة أنْ يقلدوا من شاءوا منهم، فلو نظر جميعنا إلى الاختلاف على أنه مصدر للترخص والسعة، أو أنه صواب؛ لما كان له إلا الأثر المفضي إلى الائتلاف لا التفرق.