يحاول رئيس السلطة محمود عباس أن يتجاهل الواقع السياسي والجغرافي والأمني الذي تفرضه دولة الاحتلال في القدس والضفة المحتلة وكذلك قطاع غزة، ولا يكاد ينقطع عن تقديم مزيد من صكوك التنازل المجاني، وبدلا من السلاح -العماد الأساسي لأي عملية تحرر من الاحتلال- يذهب ليقول إنه يبحث عن عصي وأجهزة شرطية، ويبدو أن رأس الهرم السياسي الفلسطيني يتجاهل ركن السيادة في سياق إقامة الدولة وفق برنامجه لاستجداء دولة تسبق عملية التحرير التي تنادي بها كل فصائل العمل الوطني الفلسطيني بما فيها حركة فتح.
يبدو أن رئيسنا المبجل يعوم بنا في بحر الدولة الورقية، ويحاول أن ينزع دسمنا حتى نفقد وزناً يمكننا من تحقيق الشروط التي تجعلنا متطابقين مع المواصفات الإسرائيلية لوهبنا دولة وفقاً لكرم الاحتلال، وكأن ما اقترفته عصابات الهاجانا والحركة الصهيونية منذ ما قبل قيام (إسرائيل) وحتى اليوم من قتل وتهجير يمكن أن يصل بنا إلى حالة من الاستقرار لنواجه هذه العربدة بالعصي!
وما يزيد الطين بلة حين تنشر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن إنفاقها العسكري وصل إلى 19.6 مليار دولار خلال عام2017.
يدعي عباس أن الأولوية لمصروفات الصحة والتعليم والبنى التحتية، وتستحضرني مقولات معمر القذافي حين كانت اللجان الشعبية تسأله عن سبب عدم ذهابه لتعمير ليبيا كغيرها من الدول العربية وبالتحديد الخليجية منها ليجيب: "طالما تحاربنا القوى الاستعمارية فلا يمكن أن نبني؛ لأنه سيكون عرضة للتدمير والاستهداف". هذا القذافي الذي اتهمناه بالجنون، أما من يصنع سياستنا الفلسطينية فإنه مقتنع تمام الاقتناع بأن دولة منزوعة السلاح بجوار أكبر قوة عسكرية بالشرق الأوسط ستتمكن من العيش بسيادة وسلام وازدهار!!
يطالب عباس المقاومة في غزة بأن تستجيب لإجراءات التمكين ضمن عملية المصالحة، وهذا يعني أن مفهوم التمكين سيصل بنا لتحويل أنفاق المرابطين وصواريخ المجاهدين إلى عصي حتى يتكرم القائد المبجل بالتكرم برفع العقوبات عن أبناء شعبه، الذي أصبح واضحاً لديه الطرف الذي يحاصره، بعد أن جاهرت القوى المتنفذة في رام الله بأنها ستحارب الجهود المبذولة للتخفيف من معاناة أهالي القطاع.
للأسف فإن مسلسل التنازل لم يبدأ اليوم عند أبو مازن، فقد جاهر في لقاءات إعلامية مع الصحافة الإسرائيلية بأنه لا يرغب في العيش بصفد وإنما سيزورها كسائح، هذا المنطق- الذي يفكر به صانع القرار الفلسطيني والمتفرد بإدارة أكبر حركات التحرر، وزعيم منظمة التحرير، وقائد القوات الفلسطينية- يتطلب من حركة فتح صاحبة المشوار النضالي الطويل ومفجرة الثورة الفلسطينية أن تستدرك التهور غير المبرر للسيد عباس في توجهاته السياسية التي تتنافى مع كل القناعات الفلسطينية الوطنية.
إن مجريات الأحداث في الضفة الغربية والتي تديرها السلطة الفلسطينية أشبه ما تكون بساحة استراحة خلفية للمستوطنين يقتحمونها وقت ما شاؤوا معربدين يحملون أسلحتهم ويطلقون رصاصاتهم تحميهم قوات الجيش في صورة مخالفة تماماً لأمنيات قيادتنا السياسية التي لا تملك إلا أن تتمسك بمفاوضات لا يمتلكون فيها أياً من أوراق القوة التي تدفعهم للمناورة حتى على طاولة التفاوض، كذلك فإن كل تجارب التفاوض التي عرفها التاريخ تجرى بدافع المعركة بين القوي والضعيف المكافح، وليس بمنطق الجمعية الخيرية والهبات!!
قدّم الشهيد ياسر عرفات نموذجاً مهماً للسياسي الفلسطيني المناضل المتمسك ببدلته العسكرية والمعتز ببندقيته والحالم بإنصاف العملية السلمية، حاول أن يجمع بينها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولم يحرق الأوراق التي من الممكن أن تخدم نضاله، فأطلق الرصاصة مرة وأشعل الانتفاضة مرة أخرى ودعم فصائل المقاومة مرات ومرات.
خلاصة القول: لسنا بحاجة إلى دولة منزوعة السلاح، وتجارب الإقليم والعالم تؤكد أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ولا يتم الحفاظ عليه إلا بالقوة، والحلم الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية لن نتمكن من تحقيقه بمنطق الاستجداء، صحيح أن قوتنا كفلسطينيين وفق ميزان القوة العسكرية مع دولة الاحتلال ضعيفة لكن الرهان على وحدتنا الوطنية المنطلقة من مفاهيم الثقة ومبادئ الحق ستمكننا من المواجهة والانتصار.