منذ "تسونامي" انتخابات 2006 بدأت الماكينتان السياسية والأمنية الدوليتان بوضع مجموعة من الخطط والسيناريوهات التي تهدف إلى إقصاء المقاومة عن لعب دور فاعل في إعادة بناء وإعادة هيكلة النظام السياسي الفلسطيني. يومها كشفت مجلة فانيتي فير الأمريكية معلومات لما كان يدور خلف الكواليس من أجل وأد الإرادة الفلسطينية التي تولدت خلال مخاض الانتخابات التي كانت كل مراكز قياس الرأي والاستطلاع تؤكد أن المقاومة لن تفوز بمقاعد تشريعية تتجاوز العشرين وهي نسبة كافية جدا للتدجين المنوي ممارسته . لقد وضع مهندسو السياسة الدولية والإقليمية كل خياراتهم ضمن (النتائج المبرمجة) لمراكز الاستطلاع لكنهم نسوا أو تناسوا سيناريو يغفل عنه كثيرون من خبراء التخطيط الإستراتيجي الدولي وهو سيناريو (المفاجأة). هذا السيناريو الذي ازعجت نتيجته كل من غفله أو تغافل عنه فكان القرار بضرورة الحصار السياسي والمالي حتى تذوي الشجرة النابتة من بذرة الانتخابات.
تدرجت الخطط و الخطط البديلة التي أعدتها الكواليس الدولية في الخفاء أحيانا وفي العلن أحيانا أخرى من الحصار المالي إلى الحصار السياسي إلى إغلاق معابر السفر إلى الحصار الاقتصادي إلى درجة منع دخول أحذية الأطفال و رباطات الأحذية والاقلام والدفاتر والأدوية وغيرها كثير. بلغ الحصار مبلغا لم يتوقعه أحد أن يحدث في القرن الحادي والعشرين وشارك فيه كل من هب و دب منفذين للخطط والسياسات الموضوعة.
لجأ الشعب المحاصر إلى استخدام زيت الطبخ لتحريك سياراته لدرجة أن المواطن صار يشم رائحة الزيت المحروق أو زيت القلي أو الفلافل في الشوارع كأحد أهم مظاهر الحياة في غزة حينها. وصار الشعب يستخدم الطين كبديل لمواد البناء وأنشأ الكسارات التي تطحن حجارة البيوت المقصوفة والمهدومة بطائرات إف 16 وحجارة الشوارع ونفايات البناء وغير ذلك من أجل إيجاد مواد بديلة لمواد منعها المحتل لوقف عجلة الحياة لكنه الشعب الذي لا يعرف المستحيل استطاع ابتكار البدائل المتعددة في ثورة فكرية ودماغية جعلت منه لا ينام الليل ولا النهار وهو يعمل السنين دأبا.
لم يثنه الحصار الجائر عن الحفر في الصخر بأظفاره واسنانه؛ يقتلع الحديد والشوك من أعماق الأرض ؛ يصنع الانفاق التجارية لينقل حاجياته من مواد غذاء وبناء ودواء وأدوات المدارس واحتياجات أخرى؛ لا ينظر خلفه بل عينه دائما نحو المستقبل؛ الذي يمنعه البعض من ممارسة حقه في بنائه وبناء حياة أجمل لأطفاله ونسائه وشيوخه.
واستمر تشديد الحصار من مجال إلى مجال ومن زاوية إلى زاوية ومن ثقب إلى ثقب؛ حتى طال هذا الحصار كل مسامات الحياة الإنسانية والشعب يبتكر في كل يوم جديدا وفي كل يوم بديلا. و حار المحاصرون حتى تفتقت أدمغة شياطينهم عن الحروب المتوالية من أجل كسر عزيمة هذا الشعب الذي يحتضن المقاومة وتحتضنه المقاومة؛ في عملية تبادلية تكافلية لم يتوقعها المحاصرون ولم تتوقعها الأدمغة التي تعمل ليل نهار لكسر الإرادة الفولاذية؛ المصنوعة في ارحام نساء رضعن المقاومة و يرضعنها لأبنائهن وهم اجنة في البطون ؛ أو زهرات جميلات في الاحضان وعلى الصدور حتى الاستواء المعلوم شبابا يافعين ناضرين مقاومين؛ يحملون على اكفهم أرواحهم ونحو الشهادة يتدافعون ويتسابقون ويتنافسون.
لله دركم يا أبناء هذا الشعب العظيم وانتم تلقنوننا كل يوم دروسا في الصمود والمقاومة. لله درك أيتها الأم الصابرة المرابطة المحبة الحبيبة الغالية ؛ وانت تكتبين بشهد روحك اروع الملاحم وتشيدين من عظمك و لحمك انفاق العز تحت الأرض أمتارا وامتارا. سيدتي أيتها الأم العظيمة ... سيدي أيها الأب المتفاني؛ انه ليس ابنك الذي يحفر الصخر في الأعماق انه انت؛ انت من تحفر وانت من تشيد وانت من ترسم بنبضك ملامح المرحلة القادمة؛ و خارطة الوطن؛ وتشق وسط الادغال و الاشواك أجمل الطريق و ابهاها سائرا نحو القدس والأقصى؛ ترش الياسمين والرياحين تفرش الأرض حبا و عشقا وعبقا ونصرا و نورا. انت من تستحق الحياة وانت الذي تكتب حروفها من عطر عرقك وجهدك وانت الذي عيناك نحو القدس شاخصتان لا تغمضان ولا ترمشان؛ تملآن الأرض أنوارا.
سيدي يا ابن هذه الأرض ويا عاشقها حتى النخاع ... هل الكهرباء التي يمعنون حصارهم بها ستكون عقبة امامك؛ سيدي لقد تجاوزتهم بإرادتك الصلبة ومعنوياتك المتألقة في كل المراحل السابقة؛ وكسرت بهدوئك و صمتك وقوة عملك و دهائك كل اساطيرهم؛ وجعلتها احاديث، بل جعلتهم هم انفسهم احاديث و ذكرى للذاكرين؛ وعبرة للمعتبرين؛ ان ارادوا اعتبارا؛ فتركتهم خلفك يعضون اصابعهم واعصابهم ندما؛ فأنت المنصور بوعد ربك و موعوده في الأرض المباركة وحولها؛ سر على بركة ربك؛ فوالله لن ينالوا منك إلا أذى ... وإن غدا لناظره قريب بل أقرب.