فلسطين أون لاين

​ليلة الشجاعية 2014

وكأن تلك الليلة كانت أطول من المعتاد، أو هكذا خُيِّل لي، ربما لشدة حرها، أو لقتامة ليلها، وقد يكون للقلق المترقب الذي كان يجوب الشجاعية على قدم وساق انتظاراً لقادم يحمل في ثناياه نذير شؤم.. كانت الشجاعية في تلك الليلة تذرع سراديب الظلمة، ألم يجافها تيار الكهرباء منذ أيام عدة؟ ويجافيها تيار السكينة فتظلم بجفائه الصدور وتوغل في الحلكة النفوس، منذ ساعات عدة وأنا أحاول استدعاء النوم إلى جفوني، ولكنه جفاني أيضاً، وفرَّ مرتعداً تحت ضربات سياط الخوف، كانت يدي تتشنج تحت وطأة قطعة الكرتون التي ما فتئت أحملها وأهزها أمام وجهي منذ ساعات المساء بكثير من الكلل والملل، عسى نسمات باردة تنعش روحي وتبث فيها بعض الهدوء والاطمئنان في هذا الجحيم المستعر الذي يحيط بي.

تذكرت مقولة قرأتها ذات مرة" يا ليل كم أنت أناني، قصير على من ينام، طويل على من يعاني" وأنا أعايشها الليلة وأختبر صحتها بنفسي، ويلح عليَّ بيت قصيد دمعة ايليا أبو ماضي الخرساء:

يا ليل أين النور إني تائهٌ***هل تنجلي أم ليس بعدك نور..

فما أطولك أيتها الليلة البغيضة! ألن تنجلي بسلام؟.

وما إن همَّ الليل بالرحيل، وشرع يلملم عتمته وغبشه ويجمع نجومه في جيبه معتزماً الانتقال إلى مكان آخر في هذا العالم البائس، ومضى نهار جديد يتمخض ويلد فجراً قد يُدخل الأُنس إلى القلوب الملتاعة، ومن دون أن أدري كيف بدأ ذلك، نعقت في سمائنا أبابيل سود تغطرست بعنجهية وعربدت بوقاحة عجيبة واستعرضت قدرتها على الفتك كاستعراض مومس اعتادت البغاء.. كان لها هدير مرعب وقهقهة فاجرة مضت تبث الرعب والموت والدمار.. توالت الانفجارات في الشجاعية، هزت أرجاءها وزلزلتها، حتى غدت وكأنها نبتة خريفية رقيقة علقت وسط طوفان جارف يهدر بقسوة متوعداً بالموت.. وكأن سقر قد شُرِّعت مصارعها.. تهاوت البيوت على رؤوس ساكنيها، وأقبل الموت مسرعاً يطوف الأحياء، وعم هرج متخبط في كل مكان، أناس كانوا يسقطون وأناس يفرُّون، وآخرون يستجدون نجدة، صراخ واستغاثات تختلط بسقوط صواريخ وانفجارها، أبنية تنهار، ومناطق تشعل... وكأن الأرض تنقلب بالشجاعية ومن عليها وتكاد تبتلعها.

يا لساعة الغفلة! كيف تنقضُّ على وعي الإنسان فتفترس فكره الذي يرقى به، فتربكه وتشتته وتجعله كأيٍ من المخلوقات الأخرى حين تواجه الخطر، فقط تسخِّر كل قوتها لتنجو بنفسها.. صاروخ اخترق سقف البيت اهتزت الجدران على إثره.. تبعه في اللحظة ذاتها انفجار عنيف كأنه بركان تفجر للتو ومضى يقذف حممه بثورة وحنق، هرعت أجمع أشلاء نفسي وأنا أهذي وأهلوس، كمجنونة تسير في نوبة جنونها رحت أتحسس طريقي راكضة في اتجاهات شتى على غير هدى، أنادي، أصرخ: أمي... سامي... أحمد... سكينة... أبي... ماريا... إيناس... أين أنتم؟؟ هل أنتم بخير؟؟ بالله عليكم أسرعوا لنخرج من هنا.. يبدو أن القيامة قد قامت.

على ضوء أشعة الشمس الوليدة استطعت انتزاع أحمد باكياً من بين الحجارة المتناثرة في كل مكان، وأحكمت قبضتي على يده أسحبه معي، أما إيناس وماريا فلم تتحركا من فراشهما برغم إلحاحي عليهما أن تنهضا، كانت حجارة كبيرة قد غطتهما تقريباً، شاهدت بقعاً كبيرة من الدماء تسيل على وسادة إيناس وفراش ماريا.. ناديتهما.. هززتهما.. لم تتحركا، عُلْتُ قائلة: إيناس وماريا استشهدتا يا أمي! سكينة كانت تنتحب وتولول بصوت مرتفع قائلة: بالله عليكم، فليساعدني أحد.. لا أستطيع تحريك ساقي.. كان جسدها هي الأخرى ينزف من أماكن مختلفة، عظم قدمها كان ظاهراً واللحم تفتت وتناثر أسفل منها.. رعب لم أشاهده من قبل، ولم أستطع احتمال رؤيته، ولكن هذا هو الواقع القميء الذي عليَّ مواجهته الآن..

أمي كانت تصرخ هي الأخرى وتكاد تفقد الوعي، عينها اليسرى اخترقتها شظية أسالت دمائها بغزارة.. أبي وسامي لم أعثر لهما على أثر.. ضممت أحمد إلي وأسرعت أغادر البناء طلباً لنجدة..

أمام عمارتنا وفي وسط الشارع، كانت سيارة إسعاف تحترق، سائقها ما زال يضم المقود بيديه ورأسه استلقى فوقه نازفاً.. لا أدري إن كان حياً أم لا.. إلى جانبه جلس رجل إسعاف لا حراك فيه.. يا إلهي! من سينجدنا، ومن سيخرج هؤلاء من السيارة المشتعلة؟؟.

في الشارع كان الناس يركضون.. يهرولون.. يفرِّون.. وكأنه يوم الفزع الأكبر.. أمهات يحملن صغارهن، رجال يحملون أطفالاً وعجائز على ظهورهم.. يكمل عويلهم سرد حكاية الشجاعية.. كان البعض يسقط أرضاً كما تسقط الفراشة فلا يأهبه به أحد، أو حتى يهب لمساعدته، كان الناس يتابعون فرارهم دون أن يصدق أيٌ منهم ما تراه عيناه، ألا يكون ذلك مجرد كابوس مرعب لن يفتأ وينجلي؟؟ قد يكون! وقد يكون أيضاً لاإنسانية الحرب الظالمة ضد أناس عُزَّل تتجلى في أبشع صورها..

استغثت.. صرخت.. رجوت الناس أن يساعدوني.. بيد أن أحداً لم يلتفت إليَّ.

شاهدت زوجة عمي تهرول مشدوهة، كأن وحشها يطاردها ويكاد يلتهمها، كانت تخبئ رأسها بين ذراعيها، وتنوح بهيجان منادية أبنائها بأسمائهم واحداً تلو الآخر.. سألتها عن أبي وعمي.. واصلت هرولتها وكأنها لا تسمعني.. رأيت سيارات صغيرة وشاحنات تغادر الشجاعية بسرعة البرق يتكدس داخلها أناس كُثر.. قذفت بأحمد داخل سيارة جارنا أبو منير وصرخت قائلة: أحمد أمانة في عنقك، خذه معك وحافظ عليه، حتى آتي إليه إن بقيت حية.

يممت وجهي صوب شارع المنتزه علني أعثر على منْ يساعدني.. كان صحفي يرتدي ملابس صحافة ملقى على الأرض يغرق في بقعة قانية، ساقه مفتتة حتى الفخذ، وبطنه بقرته شظية عمياء، أما كاميرته فما زالت ملقاة إلى جانبه ترصد الموت وتوثق الدمار، صدره كان يعلو ويهبط ببطء.. ركضت صارخة: "أريد نجدة.. أرجوكم.. سيموت الرجل وستموت أمي وسكينة".. بيد أني كنت كمن يصرخ في مقبرة.

تابعت سيري لاهثة باندفاع علني أتعثر بنجدة تنقذ أمي وسكينة والصحفي ورجال الإسعاف، والشجاعية بأسرها. خديجة قعيدة الكرسي المتحرك، الفنانة التشكيلية التي أعرفها حق المعرفة، أقسم أني شاهدت عربتها مدمَّرة وجسدها أشلاء متناثرة أما أحلامها فشهيدة سبقتها إلى الجنة.. صدقوني فأنا لا أبالغ، ولا أختلق الأحداث من مخيلتي، بل أخبركم بما شاهدت بأم عيني يومها، صُدمت بجثة متفحمة لامرأة إلى جانبها طفل لا زالت قبضتها تمسك به بإحكام.. يا للمسكينة، عاجلتها وصغيرها الشهادة قبل أن تتمكن من الفرار به إلى الحياة حين داهمها صاروخ مجرم فتك بها وترك في الأرض أخدوداً واسعاً وعميقاً إلى جانبها وكأنه يريد أن يمتحن صبرها، موت بكرامة أم حياة بذلة.. حلَّ الأسى في كياني وأظلمت الدنيا في عيني عندما رأيت جثة الشيخ "عبد الستار" إمام المسجد ممزق الصدر على أعتاب مسجده.. شعرت برعدة تسري في جسدي وهلع يتصاعد إلى دماغي فيشله ويجمد تفكيري وأنا في أوج تخبطي وإنكاري للواقع حين تعثرت بجثث ملقاة على الطريق مزقها القصف الملعون، وشوه معالمها بشكل مريع، جثث جمع أصحابها الفزع ومحاولة النجاة وفرقهم صاروخ غادِر سقط بينهم ورحل بهم إلى حيث العدالة والراحة الأبدية، عرفت اثنان من أصحابها، ولكني كنت كأسير محتجز وراء القضبان يرى ويسمع ولا يستطيع عمل شيء.. يا إلهي سامحني، فليس بمقدوري أن أكرم هؤلاء الموتى بمواراتهم الثرى، وليس بمقدوري حتى أن أترك لنفسي فسحة صغيرة لأن أحزن في مثل هذا الوقت العصيب الذي قد يكون الفارق فيه بين الموت والحياة مجرد لحظة أو خطوة.

شاهدت أطفالاً فقدوا عائلاتهم، كانوا يبحثون، يركضون، يبكون، يصرخون، يسيرون بغير هدى ثم ما يلبثون وينضمون لمجموعات الناس التي ترحل عن الشجاعية.

قيد أنملة كان بين أن تقتلني تلك الشظية التي أصابت ظهري وبين أن أنجو وأمضي حياتي مشلولة الساقين على كرسي متحرك.. ومجرد لحظات كانت فاصلة بين إنقاذ حياة أختي سكينة، واستشهاد أمي والصحفي، وإنقاذ جثتي رجلي الإسعاف من الاحتراق الكامل.

مشاهد كثيرة في الشجاعية لم تستطع مخيلتي تبديدها والتخلص منها، ما زالت تطرق عقلي في يقظتي ونومي بعنف لا يوصف.. مشاهد وصور دامية تركت في قلبي ندبة لا أظنها تزول أبداً ما حييت، يذكرني بها إن نسيت الكرسي المتحرك الذي غدا جزء لا يتجزأ من جسدي.