رحل وغابت ابتسامته الدائمة، طفل في سن 15 عامًا فرضت عليه ظروف أسرته المادية أن يكون المعيل الأول لعائلته.
حرم قناص احتلالي إسرائيلي الطفل الشهيد محمود ماجد الغرابلي حقه في العيش، عندما أصابه بطلق ناري في الرأس.
لم يكن الطفل الغرابلي يدرك أن مشاركته الأولى في مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية في 14 أيار (مايو) 2018م ستكون الأخيرة، بعد إصابته برصاصة في الرأس مكث على إثرها 50 يومًا يتلقى العلاج، إلى أن استشهد في 4 تموز (يوليو) الجاري.
برحيل محمود فقدت عائلته المكونة من والديه وأربعة أشقاء ابنهم الصغير عمرًا، الكبير همة وعملًا، وحبًّا للحياة والطموح، صورته المعلقة في مدخل بيته بحي الشجاعية شرق مدينة غزة التي يتبسم فيها ستبقى تذكرهم بطيفه، وضحكته الحلوة التي خطفتها تلك الرصاصة.
اضطر هذا الطفل أن يترك دراسته الإعدادية، لظروف والديه المادية الصعبة، فوالده متعطل وعاجز عن العمل لوضعه الصحي، حتى أخوه الذي يكبره بعام كذلك يعاني من مشكلة صحية، تقول والدته غالية (37 عامًا) التي تخفي خلف نبرة صوتها ووجهها حكاية من جراح: "محمود كان المعيل الأول لنا، فعمل وسنه 11 عامًا في محل للملابس".
تنظر إلى صورته المعلقة خلفها وهي تجلس على كرسي بلاستيكي: "كل البكاء والألم اللذين يعتصران قلوبنا هما على صفاته الطيبة الجميلة التي رحلت معه، لأنه لم يضايق أي إنسان، ولم يضرب طفلًا، فكان الصغار والكبار من أفراد العائلة يحبونه".
تمتع محمود إلى جانب تلك الصفات بطول القامة؛ فالذي ينظر إليه ولا يعرف سنه يعتقد أنه شاب، كان همه الأول والأخير هو أسرته، أن تعيش حياة كريمة، وكان يساهم في توفير الأثاث وما تحتاج له.
لا تنسى والدته أول أسبوع عمل لابنها عندما أحضر لها 100 شيكل، "لم يكن في البيت حينها أي شيكل" تعترف بألم، واستمر بعد ذلك في إعطاء كل دخله لوالديه حتى إصابته.
للاحتلال حكاية أخرى مع الطفل الغرابلي وباقي أطفال حي الشجاعية وقطاع غزة، فمنطقة سكن محمود لا تبعد كثيرًا عن السياج الفاصل شرق مدينة غزة، وقد عاش أيامًا صعبة خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014م، كانت الأحداث في منطقته دراماتيكية، قصف، وقنابل، وصواريخ، تتساقط من طائرات الاحتلال بعنف.
لكن هذا الطفل كان يواجه الخطر ويمشي بين حطام المنازل، كي يحضر لأهله لقمة العيش.
يكسو الألم صوت وملامح وجه الوالدة، كيف لا وهي فقدت فلذة كبدها، تستذكر تلك اللحظات: "كان يعود محمود متورم القدمين من بحثه عن لقمة لنا، قبل أن نغادر المنطقة هربًا من العدوان".
الإصابة والاستشهاد
قبل يوم واحد من إصابته كانت والدته قد اصطحبت شقيقته نور (5 أعوام) إلى مستشفى الدرة، وكانت حالتها الصحية صعبة، تعاني من فيروس استدعى مكوثها في غرف العناية المكثفة، اتصل محمود من هاتف صاحب العمل بوالدته بعد أن غابت عدة أيام عن المنزل، ليطمئن عليها:
- يما أنا محمود، اشتقتلك.
- دير بالك على نور وعلى حالك.
وبهذا انتهى آخر حديث بين الابن ووالدته، وفي اليوم التالي ذهب محمود إلى عمله، وقبل مغادرة العمل ظهرًا لقي شابًّا من ذوي الاحتياجات الخاصة فأوصله إلى المكان الذي يريد الذهاب إليه، قائلًا لصاحب العمل: "بدي أكسب ثواب لآخرتي، بعدين حروح على المسيرة".
وصل محمود إلى مخيم العودة شرق مدينة غزة، وكانت هي أول مشاركة له في المسيرات، كان ينظر إلى المشاركين ويصطف بجانبهم، قبل أن تباغته رصاصة أطلقها قناص احتلالي إسرائيلي عليه في الرأس، بعد مدة من الوقت اتصلت والدته بصاحب العمل عصرًا تريد الحديث إلى ابنها، لكنه أخبرها أنه عاد إلى المنزل.
حينها نقل محمود إلى مستشفى الشفاء، ودخل في غيبوبة، استمر قلب أمه في الاشتعال من شدة الخوف، "كنت أشعر أن شيئًا حدث له" تبرق عيناها وهي تستعيد تلك التفاصيل التي ستبقى تعيدها كشريط ذكريات، متابعة: "اتصلت بعمه ليسأل عنه الجيران، لأن بالنا انشغل عليه".
بعد عدم الوصول إلى أي خبر يطمئن العائلة على محمود كان الخيار الأخير الذهاب إلى المشفى، وهناك بالفعل وجدوه بغرفة العناية بمستشفى الشفاء، وكانت إصابته خطيرة، إذ تسببت الرصاصة المتفجرة بتفتيت في الجمجمة، وخلايا وأوتار المخ، وأحدثت فتحة كبيرة بمنطقة الرأس، لكن مع مرور الأيام بدأ يتنفس طبيعيًّا، بعد أن كان يتنفس بواسطة الأجهزة.
تهرب دمعة من عين والدته إلى خدها وهي تبحر في تلك التفاصيل: "وهو على سرير المشفى كنت أحدثه: "ليش تركتني يا محمود؟!"، وكان يضغط بيده على يدي حينما يسمع كلامي، لأنه كان يشعر، وتنزل الدموع على خديه". واستمرت محاولات إنقاذ حياة محمود طيلة 50 يومًا، لكنه رحل واستشهد في الرابع من يوليو متأثرًا بجراحه، وترك الحزن يبيت بدلًا عنه في منزل عائلته.
"هؤلاء جنود الاحتلال يستهدفون أطفالنا، نقول للعالم فلتمنع عن أطفالنا هذا العدوان الإسرائيلي، أين الضمير الحي وحقوق الإنسان؟!" قالتها قبل أن تصمت لتنوب عنها دموعها التي فاضت بجرحها.