هذه الكلمات قد تعد استغراقًا عاطفيًّا مكرورًا، في حين نحن أمام وقائع سياسية وأحداث ميدانية، ولكن كيف لنا أن نحيّد العاطفة ونحن نتحدث عن قطعة غالية عزيزة من جسد الوطن الفلسطيني المنكوب؟!، وكيف نخلع أو ننزع مشاعرنا الإنسانية أمام المشهد الدامي؟!، هذا طلب تحت "ما لا يستطاع" وبعيد عن منطق الواقعية، ومع ذلك سأحاول تغليب لغة الأرقام، وطرح الحقائق، واستعراض الماضي والحاضر، واستشراف المستقبل في السطور التالية.
لو قلنا إن في غزة لغز سهل ممتنع فإننا لا نحيد عن حقيقة الأشياء، ولا ندخل في طوباوية مفرطة، ولا نستغرق في تأملات صوفية حالمة، في غزة لغز معقد وبسيط وواضح وخفي وسهل وصعب في آن واحد.
ما هذا القطاع الذي بمقياس المساحات ليس كبيرًا ولا شاسعًا، ومع ذلك ينشغل به العدو والصديق، والدول الكبرى والعظمى والإقليمية والمؤثرة تسعى وراء الإمساك بحل لغزه؟!، هل ثمة مبالغة؟، لا أظن ذلك، ولننظر كم من مسؤولي الدول في أقصى الغرب والشرق يبحثون أمر غزة.
وإذا كان رابين قد تمنى يومًا أن يبتلع البحر غزة؛ فإنه أدرك بحس اللص المجرم أن هذه البقعة الصغيرة من الأرض المسلوبة ستمثل التحدي الأكبر لمشروعه، وستكون صداعًا مزمنًا.
وحين هرب (نعم هرب) شارون من غزة ساد ظنٌّ أنها قد خرجت من دائرة الصراع المباشر مع المشروع الصهيوني، لكن الحقيقة قالت وتقول: إن غزة ظلت تطارد الكيان العبري، وتصر على أن تكون أرقًا متواصلًا لقادتها، من العمل أو (ليكود) أو (كاديما) أو غيرهم.
غزة هي التحدي الأكبر للكيان العبري في حقيقة الأمر، ولست في معرض بخس أي طرف أو ساحة مواجهة أخرى ما يمثلون من تحدّ، لكن غزة ظلت حالة مستمرة متراكمة متجددة بعنفوان متصاعد يومًا بعد يوم.
لقد خاضت المقاومة اللبنانية _وتحديدًا "حزب الله"_ حربًا مع الكيان في صيف 2006م، وأبدعت في توجيه الضربات المختلفة لجيش الاحتلال ومستوطنيه، وكان من نتائج تلك الحرب سقوط أولمرت، وعدد من قادة أركان جيش الاحتلال، ولا أحد يمكنه إنكار ذلك، ولكن منذ ذلك الحين توقفت الجبهة اللبنانية عن استنزاف وضرب الاحتلال، بغض النظر عن الأسباب والظروف وتفصيلات يطول النقاش فيها، وما جرى خلال 12 عامًا في تلك الجبهة لم يتجاوز مناوشات خفيفة محدودة متباعدة زمنيًّا لم تغير في حقيقة هدوء يواطئ استقرارها ميدانيًّا، مع ذلك الصخب والحرب الإعلامية والكلامية والتهديدات المتبادلة.
مع ضرورة الأخذ بالحسبان والميزان أن المقاومة في لبنان خاضت الحرب والمواجهات التي سبقتها في ظروف مريحة نسبيًّا؛ فهناك تضاريس ملائمة للقتال والكرّ والفرّ ومساحات واسعة للمناورة، وحجم الدعم والإسناد اللذين تتمتع بهما لا يقارنا بما تتمتع به غزة، نظرًا إلى التصاق لبنان بسورية، وقدرة المقاومة بحكم الجغرافية المريحة على توفير الدعم الإيراني الكامل بكل سهولة، على الأقل مقارنة بوضع غزة، أليس كذلك؟!
وفي المقابل إن قطاع غزة بالمقياس العسكري المجرّد الافتراضي هو منطقة يسهل سقوطها في أول جولة، فهذا القطاع هو كما نعلم شريط ساحلي ضيق بمساحة تقدر بنحو 365 كم2، ويخضع لدكتاتورية الجغرافية المعقدة أيما تعقيد.
ومع ذلك ورغم كل الظروف الصعبة جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا قاتلت غزة، وخاضت خلال عقد من الزمن ثلاث حروب، وما قبل هذه الحروب وما بينها وفيما بعدها حتى اللحظة تخوض غزة مواجهات على هامش التهدئة الهشة، وجولات القتال فيها لا تكاد تتوقف إلا لتبدأ من جديد.
والخسائر في غزة لم تكن بسيطة في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة والبنى التحتية، ولكن الكيان العبري لم يتمكن من إخضاع غزة وتركيعها، أو انتزاع "صورة نصر" طالما سعى سعيًا حثيثًا إلى انتزاعها.
ودول عربية عدة منذ اختيار السادات مسار كامب ديفيد يتعرض لها الكيان العبري باستفزازات العدوانية؛ فقد عربد الكيان في أجواء العراق ودمر مفاعل تموز شرقًا، وعربد غربًا وارتكب مجزرة حمام الشط في تونس، وباستمرار يهاجم سورية ولبنان بالقصف أو انتهاك المجال الجوي بكل وقاحة وصلف، ولا تلقى في أغلب الحالات إلا "الكلاشيه" الجاهزة (الاحتفاظ بحق الرد في الوقت والزمان المناسبين)، أما غزة فكانت الوحيدة (باستثناء الضربات التي وجهها صدام حسين إبان حرب الخليج الثانية) عربيًّا بل إسلاميًّا التي كسرت القاعدة الصعبة في عصر العربدة الصهيونية الشرسة وحالة "العلو الكبير"، فقصفت (تل أبيب) بما تيسر لها من صواريخ، وعن هذا عبرت أغنية الفنانين شادي البوريني وقاسم النجار التي يحفظها ويرددها كثير من الفلسطينيين:
"قصفوا السودان وسورية وضربوا أسطول الحرية ولما ضربوا الغزاوية غزة ضربت تل أبيب".
لقد أبدعت غزة في تطوير أداء وقدرات المقاومين للدفاع عن شعبهم بما تيسر من السلاح الخفيف والمتوسط والصواريخ، ولكنها منذ نهاية آذار (مارس) من العام الجاري 2018م جعلت في موازاة ذلك حالة مقاومة شعبية لم تتوقف عبر مسيرات العودة، فالفلسطينيون في غزة باستخدام إطارات الكاوتشوك والطائرات الورقية وشيء آخر تحدث عنه الإعلام أقل بساطة وكلفة أحدثوا حالة غير مسبوقة في الصراع مع الاحتلال، وأعادوا إلى الواجهة جوهر الصراع، أي قضية اللاجئين وحقهم المشروع في العودة بعد 70 سنة، بطرق وأساليب شعبية مبتكرة، وصار للأمر نوع من الزخم والتراكم المستمر، ما جعل قادة الاحتلال في حيص بيص، ومن يقف خلفهم وراء البحار ويمدهم بأسباب القوة وعوامل البقاء الزائف فوق أرضنا.
هي إذن غزة التي جعلت ما كان يوصف بالمستحيل حقيقة راسخة واضحة، وأنتجت من عناصر ومركبات بسيطة معادلة كيميائية معقدة أعيت نتنياهو وليبرمان، ولم تفلح عمليات القتل، والتسبب بإصابات تؤدي إلى إعاقات دائمة في كسر عزيمة أهل غزة، وما إبراهيم أبو ثريا إلا نموذج من النماذج التي تعج بها غزة.
وواصل الاحتلال حربه الإعلامية والنفسية، إلى درجة تدعو للضحك والسخرية، حين نرى أفيخاي أدرعي يستخدم آيات الذكر الحكيم التي تلعنه، في دلالة على فشل قادة الكيان السياسيين والعسكريين وردفائهم من الإعلاميين في الحصول على ما سعوا وراءه 70 سنة ويزيد، أي قبول شرعية وجودهم بحكم منطق القوة وفرض الأمر الواقع وتآمر قوى الاستعمار.
هو لغز غزة، أو غزة اللغز، أو كلاهما، ليس مهمًّا، وحل اللغز ليس صعبًا، ومفتاحه أن قطاع غزة يولد فيه كل 10 دقائق مولود جديد، وإخوة وأخوات هذا المولود حين ينتزعون السياج ويواجهون دون ذلك رصاص وقذائف الاحتلال الإجرامي يقولون بلسان الحال: إن المواليد الجدد لن يعيشوا حياتهم في عشرات الأعوام القادمة بمعادلة فرضتها لندن أو واشنطن تقتضي انتقاص حقهم كما فعلوا بآبائنا وأجدادنا في حياة كريمة؛ فيجب أن يلعبوا بأمان ويذهبوا إلى مدارسهم باطمئنان، ولن تنفع كل الخطط والاقتراحات المسرّبة إلى الإعلام في تدجين غزة وأهلها، والسلم والسلام فقط حين تنام عائلاتها بأمن وسلام.
ترسم غزة لوحة التحدي وعليها أيقونات شامخة: مقاوم حمل السلاح ليدافع عن كرامة شعبه، ومتطوعة لإسعاف الجرحى، وصحفي أراد نقل الحقيقة من أرض الميدان، وطفل كان يلهو ويلعب، استشهدوا جميعًا برصاص وقذائف مصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية، فما لانت لغزة قناة، وتواصل طرح اللغز بشموخ وكرامة.