انضمت إلى طاقم العمل في المؤسسة التي أعمل فيها، كانت أنيقة جدًا، عرفتني بنفسها في أول يوم لها:
- ليانا، موظفة جديدة هنا.. "دون أن تذكر طبيعة عملها بالتحديد".
رحبت بها بشكل لائق، وتابعت عملي كالمعتاد، كنت نادرًا ما أنتبه لوجودها في البداية، لانخراطي في العمل الضخم الذي ينتظرني يوميًا لإنجازه. علمت لاحقًا أنها موظفة في كادر عمال النظافة في المؤسسة.. لم يشكل ذلك فرقًا بالنسبة لي، فأي عمل يعمل به الشخص ما دام يكسب رزقه بالحلال وبعرق جبينه، فصاحبه يستحق الاحترام والتقدير. ما لفت انتباهي أنها لا ترتدي الملابس الزرقاء الخاصة بكادر النظافة، بل تمارس مهام عملها بملابس عصرية منتقاة بعناية قوامها قميص قصير وبنطال ضيق جدًا.
وفي إحدى الدورات التدريبية كانت من بين المتدربين، بالرغم من أن موضوع الدورة لا يتقاطع مع طبيعة عملها في المؤسسة.. ولكن ما لي ولها فهذا ليس من شأني، هذا ما قلته لنفسي. المهم في الأمر أنني عرفت حينها اسمها الثلاثي، أصابني العجب.. لقد كانت معي زميلة دراسة في المرحلة الأساسية ربطتني بها عُرى صداقة طفولية تحمل الاسم ذاته.. فكيف يكون ذلك؟ كانت صديقة الطفولة متواضعة الجمال جدًا، قصيرة سمينة سمراء البشرة، ترك جدري الماء حفرًا في وجهها شوهه، عدا عن ضعفها غير المختَلف عليه في دروسها، وفقر أسرتها المدقع.
قلت في نفسي: لا أعتقد أن هذه السيدة هي ذاتها التي كانت صديقة الطفولة.. لا بد أنه مجرد تشابه في الأسماء ليس إلا. ونسيت الموضوع.. إلى أن أوصلت لي ذات مرة سلامًا من أختها التي تصغرها وكانت صديقتي أيضًا، وذكَّرتني بالعلاقة التي كانت تربطني بأختها دون أن تذكر شيئًا عن نفسها.. فقلت في نفسي: إذًا هي ذاتها وليس أحدًا سواها.
فكرت أن أنبش قبر ذكريات الطفولة معها، ولكني لم أجرؤ، فمن كان يرى سلوكياتها في العمل يعتقد أنها سليلة أسرة غنية، وأنها تعمل في المؤسسة مشرفة أو نائبة مدير أو شيئًا من هذا القبيل، وما يزيد الأمر غرابة أنها كانت تمكث في المؤسسة بعد خروج الموظفين حتى ساعات المساء لتنظيف المكان وترتيبه يوميًا، لأنها كانت تجده من المعيب لها أن تنحني بين الموظفين لإفراغ حاويات القمامة أو تنظيف الأرضيات.. بل تتصرف خلال ساعات الدوام وكأنها مراقب على عمال النظافة الآخرين وعمال الصيانة، وليست جزءًا منهم.. كان المدير يشفق لحالها؛ لفقرها الشديد وحاجتها لأي دخل يلبي ولو جزءًا يسيرًا من احتياجات أسرة قوامها زوج مريض عاطل عن العمل وخمسة أطفال دون سن العمل؛ لهذا كان يتغاضى عن كثير من سلوكياتها، برغم الإحراج الذي كانت تسببه له مع موظفي وضيوف المؤسسة، ويعتبر أنها تندرج تحت ظرف "عزيز قوم ذل".
كانت مدخنة شرهة، ولا يحلو لها التدخين إلا بين الموظفين والمراجعين. وعندما يزور المؤسسة ضيوف ذوو مستويات عالية تشتري ضيافتهم على نفقتها الخاصة برغم ضآلة راتبها، كان المدير يتضايق جدًا، ولكن ما بيده حيلة أمام الضيوف.
وذات يوم، كنت أهمّ بالخروج من المؤسسة، فإذا بها تسبقني إلى الخارج، تفتح سيارة حديثة داكنة اللون، تجلس وراء المقود، تشغل محرك السيارة وتقودها إلى خارج موقف سيارات المؤسسة، وقرب البوابة تعرض علي أن توصلني للبيت.
- يا إلهي، من أين لها هذا؟ كيف لها أن تحصل على رخصة قيادة وسيارة جديدة في ظل ظروفها.. استغربت الأمر ولكني لم أشغل نفسي به كثيرًا.
وبعد أن أصبحت أعرف هذه الزميلة جيدًا، أدركت أنها تحاول رسم صورة غير حقيقية لنفسها ووضعها أمام المجتمع بالرغم من أن أحدًا لا يجبرها على ذلك، ولا أحد يشغل نفسه بها، فلكل همومه التي تشغله، ولكنها حصرت نفسها وحياتها في المظاهر الخارجية، على حساب أسرتها وظروفها الصعبة، حتى إنها أنكرت فقرها وظروفها، وارتدت مظاهر الأثرياء الناجحين ذوي الشركات والأعمال.
أشفق عليها، فهي ترهق نفسها وأسرتها فيما لا قبل لهم به، دون أن يعود ذلك عليها بفائدة تذكر سوى مظاهر جوفاء تسلي نفسها بها.