فلسطين أون لاين

​الذاكرة الشاكرة أم أديب..

"ختيارة" على باب الحارة

...
كتبت/ حنان مطير:

على باب بيتِها الواقع في شارع الجلاء بغزّة؛تجلس الحاجة أم أديب أبو حسنين (88 عامًا)، وبجوارِها حذاؤها النظيف، لا تفارق عيناها المارّة، تبتسم في كل الوجوه، تارةً تمسك وشاحَها الناصع البياض وتضعه لثامًا على فمِها، وأخرى ترفعه لتلتمس شيئًا من نسيم الهواء، فيكشف عن عقدٍ ذي حبيباتٍ زرقاء كبيرة في الوسط وصغيرة من الجانبين.

كنت في طريق عودتي للبيت ألمحُها يوميًا تتمتم وتعدّ على أصابِعِها بهدوءٍ، فاقتربتُ منها في ذلك اليوم وسلّمتُ عليها، وسرعان ما اتّسعت ابتسامتُها، ثم أنْزَلَت كفّيها ووضعتهما في حجرها حيث "الدّاير" الأسود الذي غالبًا ما ترتديه كبيرات السنّ في غزّة.

"تفضلي" يا بنتي، والله "هَيْتك" محاميّة؟ سألتني وقد أمسكَتَ ذقنها الرفيع بأصابِعها واقتربت مني برأسِها قليلًا وزمزمت عينيهامتفحصةً ملامحي، وقد سعِدتُ لتفاعُلِها منذ البداية وأجبتها:" بل صحفية لكن ربما جهاز اللاب توب على كتفي يُوهِم الناظِر بذلك، وقد جئت لأُسلّم عليكِ وأتحدّث إليك قليلًا".

"يا "100" أهلًا وسهلاً"، ردّت ثم عادت لوضعيتها الأولى والابتسامة ما تزال تُزيّن وجهها الذي ملأته التجاعيد، فأخبرتُها أن مجرّد اللقاء بها أمرٌ رائع وينعشني وأنّ رحابتَها تكفي لأن تجعل من يقترب منها يحبّها.

"الله يرضى "عليكِ" يا بنتي"، قالت ثم ركّزت بعينيها في الفراغ أمامها، فبَدَت شاردةً، قبل أن تقطع شرودها إحدى الجارات المارّات التي جاءت لتسلم عليها وتسأل عن حالِها وتتركها، فتُلحِقُها أم أديب بِطَيّب دعواتِها.

تروي أم أديب لـ"فلسطين" أنها تقضي غالبية وقتِها بجوار باب بيتِها لا يفارق لسانَها ذكرُ الله وشكرُه، إنها دائمة التكبير والتسبيح والاستغفار، تراقب الناس وتدعو لهم "خاصة أولئك الشباب الذين لا يجدون وظيفةً تعيلهم فيخرجون للشارع بلا هدفٍ يذهبون إليه، ويضيع وقتهم بلا فائدة".

"العمر غالي زي الذهب والله يا بنتي، حرام يضيع على الفاضي، والشباب مثل الورد لا ينقصهم إلا من يسقيهم ليثمروا" توضح وهي تؤشر بذراعِها كالأم الحريص على عدد من الشباب قد مرّوا للتوّ بالقرب من بابِها.

أم أديب فقدت زوجها قبل قرابة 15 عامًا، وقد قضت معه أجمل أيام عمرِها " كلّ تلك السنين لن تنسيني "أبو أديب" وأيامه الحلوة، كان كريمًا حنونًا حتى "وهو مْعَصِّب" . تستذكر.

سألتها عن عقدِها الذي يزيّن رقبتها، فضحِكَت ورفعته قليلًا لتريني إياه بدقة وقالت والابتسامة توشّح كلّ ملامحِها:" الله يرحمه، هو من أهداني إياه، لقد جلبه لي من مصر، ولشدة ما أُحبّ هذا العقد فإنني لا أفكّه من رقبتي أبدًا"، وتضيف:" هذا من ريحة الغالي، لا أفرط فيه أبدًا".

كل دقيقة كانت تمرّ أو اثنتين يمرّ أمام أم أديب أحدٌ ليسلم عليها ويطمئن على صحّتها وحالِها، فكان سؤالي لها:" أرى الناس يحبّونك وينشرحون كثيرًا على ما يبدو برؤيتِك، فلماذا يا ترى؟".

تقبض على معصمي وأنا أجلس على الأرض بجانبِها بعد أن أنهكتني الجلسة القرفصاء وتجيبني كمعلمٍ يقدّم درسًا لتلميذه:" يا بنتي الابتسامة والكلمة الطيبة هي أكثر ما يُحبّب الناس بك، ويمنعك من أن تتعرضين للمشاكل، كذلك "التطنيش" وتقصد "التجاهل"، وعدم التدقيق على كل كلمة تُقال بحقّك".

وتضيف:" بعض الناس لا تتركك بحالك وهؤلاء لا يجب أن نلاحقهم لأننا نحن أول ما نتعب قبلهم".

أما العصبية فهي نار يا بنتي تحرق البيوت والناس وكل شيء جميل، لقد علّمتني المواقف أن أكون مترويّة "رايقة" لا أغضب لأتفه الأسباب، فالدنيا كلها فانية ولا تستحق منا أكثر من العبادة والشكر، والآخرة هي الباقية.

تلك كانت ختام نصائحها لكسب قلوب الناس ومحبتهم، إنها كنزٌ من "ختيارة" تجلس على باب الحارة، لكنها بالحقيقة امرأة حكيم تستحق كل احترامٍ وتقدير.

ودّعتها شاكرةً لها على الدقائق الثمينة التي جلست فيها معها، وعلى الطاقة الإيجابية التي غمرتني بها، ثم عدت لبيتي وكلّي أملٌ أن أحافظ على كلماتِها في كل وقتٍ وحين، فنحن لن نعيش الحياة مرتين.