رغم الرمزية التاريخية والجغرافية التي تتمتع بها العاصمة الفنلندية هلسنكي في جمع قطبي العالم (الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، إلا أن دلالة المكان والزمان ورمزيته، يكتسب أبعاداً جديدة بالنسبة لعدد من قضايا المنطقة، وعلى رأسها سوريا وفلسطين.
الدور التاريخي لفنلندا كمكان يجمع اجتماعات قادة موسكو وواشنطن لم يكن ليمر مرور الكرام، فأول اجتماع "فنلندي" عقد في عام 1975 هو مفاوضات الرئيس الأميركي، جيرالد فورد، مع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، ليونيد بريجنيف، وكانت النتيجة "اتفاقية هلسنكي"، وهي وثيقة وقعها رؤساء 35 دولة، معلنة تحسن العلاقات بين الدول الشيوعية والدول الرأسمالية آنذاك. ولاحقاً، عند الحديث عن هذه الاتفاقية، فإنها تعني "انفراجا" خلال الحرب الباردة.
في عام 1990، وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي بأشهر، ناقش الرئيس الأميركي، جورج بوش (الأب)، والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، في هلسنكي أزمة الخليج العربي التي كانت تعد الأزمة الأكبر في العالم والمهددة لتدفق النفط (عصب الصناعة والحياة الحديثة) إلى الأسواق العالمية.
وفي عام 1997، في المقر الرسمي للرئيس الفنلندي، أجرى الرئيسان، الأميركي بيل كلينتون و بوريس يلتسين، محادثات مفصلة. فيما يأمل العالم أن يؤدي الاجتماع بين البيت الأبيض والكرملين إلى تحسّن في العلاقات الروسية الأميركية.
قد يقال: إن فنلندا "أرض محايدة"، لأنها ليست جزءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعضويتها في الاتحاد الأوروبي تربطها بالغرب، كما أنها تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من واشنطن وموسكو، لكن التطورات الأخيرة منذ وصول الرئيسين ترامب وبوتين إلى الحكم، جعل فنلندا "المحايدة" من الناحية النظرية، بقعة جغرافية وكياناً اقتصادياً "روسيًّا" أو مقرباً من موسكو أكثر من الغرب، لا سيما أن القرب الجغرافي لفنلندا من مسقط رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (سان بطرسبرغ) جعل هلسنكي تدور في الفلك البوتيني، ما يعني انتفاء ما يشاع عن كونها أرضاً محايدة كما يروج.
ستكون قمة فنلندا "لفتة رمزية" لبدء ميل الميزان الاستراتيجي بين موسكو وواشنطن لصالح الأولى، بعد أن خسرت الثانية معظم حلفائها الدوليين (الاتحاد الأوروبي، تركيا، باكستان) وتورطت في أزمات سياسية مع البقية، حرصت موسكو خلالها أن تستغل كل ذلك لتوطيد نفوذها الإقليمي والدولي، بدءاً من أزمة القرم الأوكرانية ووصولاً إلى الأزمة المستعصية "سوريا".
بين سوريا وفلسطين ارتباط تاريخي وجغرافي لا يمكن إنكاره أو التغافل عنه، والصفقات المعدة للملفين أخذت بعين الاعتبار هذه الروابط لتنسج منها ملامح مستقبل المنطقة، فتطبيق "صفقة القرن" الأمريكي بات جاهزًا مع تخاذل العرب عن نصرة الفلسطينيين ولو بمجرد التمنّع والرفض للإملاءات الأمريكية الإسرائيلية حول تهجير الفلسطينيين وابتلاع ما تبقى من أرضهم، والاستيلاء رسمياً على القدس المحتلة بمقدساتها. وختام الإعداد والتجهيز لهذه الصفقة يأخذ بعين الاعتبار الجنوب السوري كمرحلة أخيرة في تهيئة الأرض لتطبيق هذه الصفقة، بعد تأمين منطقة آمنة أو عازلة لحشد ما تبقى من معارضي الأسد في منطقة واحدة يشرف عليها الأردن سياسياً وتمول أممياً لإرسال المعونات الإغاثية، وتأمين الجبهة الشمالية لكيان الاحتلال، قبل الإجهاز على الوجود الإيراني في سوريا، وإجبار طهران على مغادرة سوريا، وهو ما سيبحثه ترامب وبوتين في هلسنكي.
قاعدة تطبيق صفقة القرن الأمريكية تنطلق من الجنوب السوري لمحاصرة الثورة السورية أو ما تبقى منها، وإنهاء الصداع الإسرائيلي في الشمال، للشروع في تطبيق الخطة المعدة على نار هادئة، والتي لم يبقَ أمام تنفيذها معارض أو منتقد سوى الشعوب العربية التي يبقى التعويل عليها وعلى حراكها المدني، الحل المتبقي لمواجهة مشاريع تصفية آمال هذه الشعوب وحقوقها!