أمي، أبي، أرجو ألا يحزن قلباكما لاستشهادي وفراقي، بل ليدخل الفرح والعزة نفسيكما، فقد أنجبتما رجلًا ما قَبل إلا أن يكون على قدر المسؤولية، ما تخلف عن نداء الواجب حين نادت فلسطين صارخة مستغيثة، تحركت الحمية في عروقي يا والدي، وما استطعت إلا أن أكون من الملبين، يحدوني الأمل في العودة إلى يافا، وحيفا، والناصرة، وبئر السبع، وعكا، وصفد.
لم أكن أعلم أن رصاصة غادرة من معتدٍ يتربص بكل ثائر حر عزيز النفس كانت تنتظرني وتتربص بي، ويصرُّ مطلقها إلا أن يوجهها إلى رأسي، معتقدًا أنه عندما يقتلني سيخيف جيلًا خرج يواجههم بصدره العاري، ويقف أمام العالم أجمع مؤكدًا أنه لم ينس حقه وأرضه، وأنه سيعود، كنت أتمنى الشهادة، ولا أخفي عنكما أنني قد دعوت الله أن يمنَّ بها عليَّ، مع أني كنت أشفق على قلبك _يا أمي_ من وجع الفقدان.
لست أول شهيد تُراق دماؤه على هذه الأرض المباركة ويغادر هذه الدنيا مبتسمًا شامخ الرأس عزيزًا، ولن أكون الأخير، يا أبي، وأنت تعلم ذلك تمامًا، وطالما غرسته في نفسي منذ بدأت أعي الدنيا، فقافلة شهداء الحق طويلة ممتدة _يا أمي_ في عمق التاريخ، ولن تنتهي إلا بانتهاء الحياة في هذه الدنيا البائسة، فالسجال بيننا وبين الباطل الذي يقف المحتلون على رأسه طويل لا ينتهي.
أرجوك يا أمي، لا تجزعي ولا تحزني، أوما ترضين لي بالفردوس؟!، أوما ترضين أن تكوني مثل الصحابيات وأمهات المؤمنين؟!، أسماء بنت أبو بكر فقدت مهجة قلبها عبد الله بن الزبير وهو في ريعان شبابه، وكان من أحب الناس إليها، فلم تجزع، بل مضت تبث العزيمة في نفسه وتشجعه على الثبات على أن يمضي في طريق الحق عندما جاءها مودعًا قبل استشهاده، وأم عمارة _يا أمي_ عندما بعث رسولنا سيد الخلق وإمام المجاهدين ابنها حبيب رسولًا إلى مسيلمة الكذاب، فأوثقه ومضى يسأله: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟
فيقول حبيب: نعم
فيقول مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟
فيقول حبيب: لا أسمع شيئًا.
فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أخذ يقطع بسيفه جسد ابن أم عمارة المؤمن الصابر، فلم يزده التعذيب إلا عزمًا وصلابة وإيمانًا وإحسانًا حتى استشهد، وصبرت أم عمارة واحتسبته شهيدًا عند الله، ولم تجزع لأمر من أمور الدنيا ومصائبها، ولكنها صبرت واحتسبت لتنال جزاء المحسنين الصابرين، وقد وعدها النبي الكريم (عليه أفضل الصلاة والتسليم) _ووعده حق_ أنها معه في الجنة، وأهلها.
أنا سرت _يا والديَّ_ على درب الصحابة والتابعين وأشاوس المسلمين، فكانت الشهادة وسامًا أتقلده، فكونا فخورين بانضمامي إلى قافلة الشهداء التي تصبو إلى القدس والأقصى، واستعادة عزتنا على ثرى الأرض المباركة، ولم تؤثر الراحة ونعيم الدنيا الزائل في وقت ما.
لا تحزني _أماه_ واصطبري، ألا ترضين أن يعوضك الله خيرًا مما أُخذ منك؟!، واعلمي أني رحلت عن دنيا الفناء مرتاح البال ثابت النفس.
ولا تأبه _يا أبي_ لكلام من يقول إنك غدوت وحيدًا بعد استشهاد شبلك الوحيد؛ فأهل الحق كُثر، وجميعهم إخوة تجدهم معك في الصعاب، وكن واثقًا أن الله معك وسيعوضك أجر تعبك وصبرك، وتذكر أن نبينا الكريم قد فقد أبنائه الذكور جميعًا، ولكنه ترك حضارة عظيمة وعقيدة لا تتزعزع في نفوس أصحابه وتابعيه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
أمي، أبي، أحبكما، وأدعو لكما بالثبات والصبر والقبول.