قائمة الموقع

​"ريتاج" عندما يلتقي "الميلاد" و"الفراق".. الجرح سيتجدد كلَّ عام

2018-06-10T07:19:59+03:00

اكتوت بنار الفراق، قدر لها أن تعيش وحيدة، رحل والدها الشهيد محمد حمادة (30 عامًا)، وبقيت ابنته الوحيدة ريتاج (6 سنوات) تبكي على أطلال ذكريات وقارعة الألم، تتذكر تلك الرصاصة التي تربصت بوالدها وقربت إليه شهقة الوداع، ستحاول إغماض عينيها لكنها ستستيقظ كل يوم على تلك الأطلال المسكونة بالألم والغارقة بالوجع والدموع، تحنّ لأيام استيقظت فيها على ضحكات والدها وابتسامته وأيامه الجميلة التي أصبحت ذكرى وطيفًا وحنينًا وماضيًا رحل.

كان محمد حمادة حريصًا على المشاركة في مسيرة العودة، كيف لا وهو دائمًا يقول "اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى، وإن لم ترضَ فخذنا إليك"، وفي يوم 14 مايو/ أيار الماضي وخلال مشاركته بمسيرة العودة شرق منطقة أبو صفية شمال القطاع، تعرض للإصابة بقدميه.

شمعة ألم

نقل حمادة إلى مشفى العودة شمال القطاع وعلى الفور حول لمستشفى الشفاء بمدينة غزة، ودخل غرفة العمليات وكان يعاني من نزيف، كما تروي زوجته فاتن حمادة (27 عاماً) لصحيفة "فلسطين"، وأحدثت الإصابة تهتّكًا بالعظام والأوعية والشرايين، أدرج اسمه بين المرضى الذين قرر الأطباء الأردنيون تحويلهم لعمان للعلاج، لكن الاحتلال لم يكتفِ بإصابته فرفض السماح له بالخروج عبر معبر بيت حانون/ إيرز.

عندما علمت ريتاج أن موعد ذكرى ميلادها (20 مايو) قد مرّ ولم يحتفل بها أهلها، بكت وأصرت على الاحتفال، وهي تكرر السؤال على والدتها "ليش ما عملتو لي عيد ميلاد"، والأخيرة تحاول إرضاء براءتها وطفولتها "عشان بابا مصاب، لما يرجع بنعمله مع بعض"، ومع إلحاح الطفلة أحضرت أمها قالب جاتوه وذهبتا واحتفلت ريتاج بيوم ميلادها وأضاءت الشمعة السادسة بحضن والدها، وهي لم تعلم أنها ستبقى تشعل في قلبها الألم.

مرت عدة أيام.. السبت 2 يونيو/ حزيران، أمضى حمادة يوما جميلا في بدايته بمستشفى الشفاء، أفطر الزوجان معًا فرغم أنه مصاب لكنه كان يحب أن تأتي زوجته وتفطر معه بالمشفى ليشعرها أنه ليس بعيدا عنها، لتعيش بعد ذلك حدثا صعبا لن تنساه، كتب زوجها منشورا على صفحته الشخصية على "فيس بوك" يطالب فيه بأن يأخذوه إلى مخيم العودة للمشاركة في تحدٍ وإصرار.

الساعة الحادية عشرة مساءً، بينما كان حمادة يجري اتصالًا هاتفيًّا وهو يجلس على السرير الطبي، كان يخبر أصدقاءه أنه سيخرج بعد أيام، وما إن أنهى المكالمة الهاتفية، حتى نظر إلى قدمه فوجد أن هناك نزيفًا كبيرًا.

"نفورة دم إلحقوني" بهذا كان يصرخ، وزوجته المصدومة تخرج من الغرفة وتنادي على الممرضين وتعود إليه تخفف عنه وتمسح وجهه بالماء.

بصوت يقطر بالحزن تكمل زوجة الشهيد حديثها: "كان هناك ممرض واحد بالقسم، ناديت عليه وبعد دقائق حضر هو وممرضان آخران، وضعوا لزوجي الأكسجين، ولفوا قدمه بالشاش وأجروا قياساً لضغط الدم، وأدخلوه غرفة العمليات وما هي إلا ساعة ونصف حتى أعلنوا عن استشهاده".

وحيدة على قبرك

استشهد وشيع الشهيد حمادة، رغم أنه كان مقررًا له الخروج نظرًا لتماثل حالته بالشفاء، عاشت ابنته الوحيدة آخر اللحظات معه شاهدت نزيف الدم، ومراسم التشييع، لكن بقي السؤال للجميع "أين أبي؟"، لم تستطِع والدتها التهرب كثيرًا من إجابتها، فاصطحبتها معها إلى قبره، ما إن وصلت الطفلة قبر والدها بدأت برش الماء على القبر "كي يشرب" -ببراءتها تعتقد ذلك- وأحضرت ورودًا ووضعتها على قبر والدها، الذي كان قلبه بستانًا مزهرًا لها ذبلت أزهاره بعد رحيله.

على حجر جلست هذه الطفلة، تراقب، تنظر إلى قبر والدها، لا تصدق أو تتخيل أنه تحت الأرض، تحدثه بما تشعر به: "اشتقت لك يا بابا أنا بحبك يا بابا"، لترسم لوحة من جراح طفلة في السادسة من عمرها تضع يدها على وجهها تخفي حزنها ودموعها.

ريتاج طفلة أحبت أن تعيش مع والدها، تفرح، تمرح، تلعب، لكنها حرمت من كل شيء، ستبحث في أرجاء البيت ولن تجد طيفه، لن تجد ذلك الحضن الذي كان بوابة سعادة لا تغلق أمامها، "أين أنت يا أبي؟" ستواصل البحث عن إجابة لهذا السؤال مراراً وتكراراً، ودائما الإجابة "في الجنة".

رحل الشهيد حمادة وترك طفلته ريتاج وحيدة تفتقد كل شيء منحه لها، أوصاها بأن تحفظ القرآن وبأن تكون طبيبة، قدر لريتاج أن تكتوي بالألم، شاهدت دماءه تنزف، لعل هذا المشهد سيبقى دائمًا في حياتها، سيذكرها بآخر لحظة قضتها مع والدها، وإن كانت ستجفّ عيونها سيبقى قلبها يكتوي بنار الفراق.

اخبار ذات صلة