حينما تتلاشى الجدران التي كنا نحتمي بها، وتغيب سطوة السلطة التي كانت تحكمنا، ما الذي يتبقى ليلجم وحشية البشر؟ هل نعود إلى "شريعة الغاب" حيث البقاء للأشرس؟ أم أن هناك قوة خفية، أعمق من القانون، تحرس بقايا إنسانيتنا؟ هذا هو السؤال الذي طرق باب عقلي وأنا أقف متجردة من كل أمان، أستعد لقضاء ليلتي الأولى في خيمة بلا أبواب توصد، ولا جدران تستر، ولا مرافق تقي ذل الحاجة.. خيمة لا ترد برد الشتاء القارس، ولا تصد طمع اللصوص المتربصين.
ليلة الرعب الأولى:
في تلك الليلة الليلاء، افترشتُ الأرض الباردة والهلع ينهش قلبي. تمددتُ وعيناي معلقتان بالسقف المهتز، وأسئلة الخوف تعصف بي: كيف لي أن أحمل صغيرتي الرقيقة وسط هذا الصقيع الجارح لقضاء حاجتها في العراء؟ كانت أصوات الكلاب تعلو في الخارج، تحيط بنا كأنها نذير شؤم، ولا يفصلنا عن أنياب المجهول سوى "شادر" قماشي، بدا في عينيّ حينها أوهن من خيط العنكبوت.
يمكنني أن أشهد الآن أن النوم في العراء، داخل خيمة تلاعبها الرياح، هو فصلٌ من فصول الرعب الحقيقي؛ فلا حصن يحمينا من وحشٍ ضال، ولا رادع يمنع مجرماً عابراً. كيف تغفو العيون ونحن نعيش في قلب الخطر؟ لم يزر النوم جفوني في تلك الليلة، وظل الخوفق سميري ورفيقي حتى تنفس الصبح.
سر "الساتر" القماشي:
ولكنّ الإنسان كائنٌ عجيب، يمتلك قدرة مذهلة على الترويض والاعتياد. فمع مرور الأيام، بدأت أنام، ليس استسلاماً، بل لأني اكتشفت سراً عميقاً ومدهشاً: أن شعبنا، ورغم جحيم الحرب والفوضى التي تطبق على الأنفاس، لا يزال يقبض على جمر أخلاقه ونخوته. لقد تحول ذلك الساتر القماشي الهش، بقدرة قادر، إلى بابٍ فولاذي منيع. ليس بمتانة خيوطه، بل لأن هناك ضميراً حياً، وقيماً دينية ومجتمعية راسخة، تقف حارساً أميناً تمنع انتهاك الحرمات.
تحت هذه الأسقف المهترئة، يُعقد القران، ويُزفّ العرائس، وتُولد الحياة من جديد، ويأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم. نعم، ينامون خلف قطعة قماش أو "نايلون" يمكن لمقصٍ صغير أو سكين صدئة أن تمزقها في طرفة عين، لكن ذلك لا يحدث!
وإذا عرجنا بحديثنا إلى "الاستحمام"، فتلك حكاية أخرى من حكايات الستر العجيبة. كيف لنا أن نغتسل ولا يسترنا إلا قماش، والمخيم بأسره يدرك أن خلف هذا الستار جسداً يستحم؟ في البداية، كنتُ أخطف الخطى وقلبي يقرع طبول الخوف خشية أن يقترب أحد، فلو دُفع الغطاء لسقط وانكشف المستور. لكن شيئاً من هذا لم يقع قط؛ لأن "النخوة" متجذرة في الجين الفلسطيني بغزة. هذه التجربة، بكل ما فيها من قسوة وانعدام للخصوصية، كانت برهاناً ساطعاً على أصالة المعدن البشري هنا.
سقوط نظرية "العقد الاجتماعي":
هذا الصمود الأخلاقي المذهل في غياب "الدولة" دفعني للتأمل بعمق في نظريات الفلسفة: كيف لا تنهار مجتمعاتنا مع غياب السلطة الرادعة؟ لقد قرأنا في بطون الكتب أن "العقد الاجتماعي" وُلد من رحم الخوف، وأن البشر تنازلوا عن حريتهم المطلقة لسلطة حاكمة فقط كي لا يأكل قويهم ضعيفهم. المنطق الغربي يقول: إن غياب هذه السلطة هو دعوة مفتوحة لشريعة الغاب.
وفي حالتنا، ورأس السلطة الرسمية "حكومة حماس" يلاحقه المحتل بالنار والبارود، كان من المتوقع -وفق نظرياتهم- أن تغرق مخيماتنا في طوفان من الفوضى، وأن تتحول خيامنا إلى مسرح للنهب والجريمة، تماماً كما يحدث في عواصم الغرب المتحضر حين ينقطع التيار الكهربائي لساعة واحدة.
معجزة الضمير الجمعي:
لكن ما حدث كان أعجب من الخيال؛ *لقد تحطمت كل محاولات نشر الفوضى في المناطق المأهولة بالغزيين على صخرة "الضمير الجمعي"*. ظل اللصوص والمنفلتون منبوذين على أطراف المشهد، لا يجرؤون على ارتكاب موبقاتهم إلا حيث تطأ قدم المحتل وتغيب عين المجتمع. فعندما تصدر أوامر الإخلاء، وينزح الغزيون تحت حمم النار، يتقدم اللصوص والعملاء لنهب البيوت والممتلكات تحت حماية دبابات الاحتلال، وفي مناطق الاجتياح البري فقط يجدون الملاذ الآمن لإقامة أوكارهم وتخزين مسروقاتهم.
وهكذا، في عراء الخيمة الموحش، وجدنا "سِتراً" لم تمنحه لنا جدراننا الإسمنتية الشاهقة يوماً.
فلا تبكوا علينا.. بل ربما عليكم أن تبكوا على عالمٍ "متحضر" يحتاج إلى أقفالٍ فولاذية وكاميرات مراقبة ليأمن فيه الجار من جاره. أما أماننا نحن، وإن كان قماشياً واهياً، فهو منسوجٌ بخيوط "الثقة".. وهي عملةٌ نادرة، يبدو أنها انقرضت في زمانكم.