فلسطين أون لاين

​قبل "السلفي" وحضن الأم الأخير ثلاث إصابات لرجل "الدفاع الأول"

...
غزة - يحيى اليعقوبي

بعد ليلة عائلية سعيدة عاشتها عائلة "أبو حسنين" كانت على موعد مع صدمة مفاجئة لأفرادها جميعًا: السابعة صباحًا (الإثنين 14 أيار (مايو) 2018م)، "ضايلة بدك تروحي شرق غزة" يحدث موسى أبو حسنين (36 عامًا) والدته "أم محمد" بعد أن تجهز ولبس ملابس العمل (دفاع مدني)، لكنها رفضت معللة: "تعبانة وعيانة مش قادرة أطلع"، قبل أن يخرج من عتبات البيت نظر إليها وقال: "قلبي معك ادعيلي"، تمهل قليلًا وعاد بخطواته إلى الخلف وحدثها:

- يمكن هالمرة أستشهد.

- إذا ناويها بنية صافية؛ الله يعطيك إياها.

غادر موسى المنزل، وما هي إلا لحظات وكأن نار اشتعلت في قلبها، ارتدت "أم محمد" ثيابها وذهبت تركض وراء إلهام قلبها، وكأنه يقول لها: "موسى رايح مش راجع" غير مكترثة بمرضها.

عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، "أم محمد" وصلت إلى شرق المقبرة الشرقية في حي الشجاعية بمدينة غزة حيث التظاهرات كانت مشتعلة، وما هي إلا لحظات حتى التقت نجلها "موسى"، لم يلتفت إليها، ففاجأته من الخلف مداعبة إياه واحتضنته، التفت إليها وابتسم لزميله الذي يعمل في الدفاع المدني: "أمي قيادية جاية على المنطقة الصعبة قبلنا وإحنا لسه مش جايين"، وطلب منه التقاط آخر صورة جمعته بوالدته، والتقط صورة "سلفي" بهاتفه الشخصي له معها.

الأحداث شرق "مقبرة الشهداء" "دراماتيكة": قوات الاحتلال تطلق النار بكثافة على المتظاهرين، الناس تجري، بكوا، اختنقوا، أصيب من أصيب، يتفقد بعضهم بعضًا.

- موسى (بعد أن التفت إلى والدته): خدي ساتر يما.

- أم محمد (ظلت تركض وراءه): بديش آخد ساتر، اللي كاتبه ربنا بصير.

نداءات ونزف

نظرت إليه حينما غادرها لإسعاف المصابين، وعادت بشريط ذكرياتها القريب إلى الليلة السابقة حينما جلست مع نجلها على عتبات البيت وكانت السعادة بادية عليه، وهو يوزع طرودًا غذائية على أفراد الدفاع المدني، ويوصل الطرود إلى بيوتهم ثم يعود للجلوس مع والدته.

ستبقى تلك اللحظات التي عاشتها أم محمد تذكرها بموسى طيلة حياتها، وكأنها تعيش ذلك المشهد مرة أخرى، فتكمل: "ذهب موسى لإسعاف المصابين، وفي أثناء إجلائه المصابين من المكان أصابه طلق ناري اخترق كتفه من الأعلى وخرج من أسفل البطن (بشكل زاوية)، لم يكن هناك إسعافات، كان المكان مكشوفًا والأرض وعرة والاحتلال يطلق النار بكثافة".

تنظر، تراقب، تصرخ، لا أحد يستجيب إلى نداءات "أم محمد"، تراقب نفس نجلها: "قل لا إله إلا الله، إن شاء الله ربنا حيعافيك"، طوال الوقت كان دم موسى ينزف، وبعد نصف ساعة استطاع شابان إحضار لوح من "الزينقو" وضعوه على "سيبة" (سلم خشبي).

صمتت وهي تعيش الموقف نفسه مرة أخرى: "نقله الشابان وسارا به مشيًا نحو 10 دقائق حتى وصلنا إلى الشارع العام، وهناك وجدنا مركبة ونقلناه إلى المستشفى الإندونيسي، وبدأ في الطريق الدخول في غيبوبة، وكان يلفظ آخر أنفاسه وقلت للشباب الذين أسعفوه معي: "أبو زيد استشهد"، لم أتحدث بأي صوت، فقط احتضنته وقبلته"، تهرب دمعاتها من عينيها: "كان لي نصيب أن أراه حينما أصيب، وأنقله إلى المشفى، ما عشته مأساة كبيرة".

ارتقى موسى شهيدًا، وكانت "أم محمد" أمام لحظات الوداع، ونقل الخبر إلى العائلة لا تعلم كيف ستعود إلى أبناء نجلها الأربعة، ماذا ستقول لزيد (9 سنوات)، ويارا (7 سنوات)، ولارين (4 سنوات)، وغيث (3 أشهر)؟!، بماذا ستجيب عن سؤال: "أين أبي؟"، هي الحقيقة التي أرغمت "أم محمد" على مواجهتها.

أقيم بيت العزاء، وجاء رمضان، والسؤال لم ينقطع، ففي هذه الحالة تبكي القلوب وتصمت العيون، فلا توجد إجابة، وإن وجدت فإنها لا تعيد من رحل بلا عودة.

شبكة بلاستيكية

سرد الحكاية لم يتوقف، وهذه المرة يبدأ شقيقه مهدي الحديث عن شقيقه الشهيد، الذي كان رياضيًّا موهوبًا في شبابه، لعب كرة القدم بالنادي الأهلي الفلسطيني، وكان موظفًا بأجهزة السلطة، ثم التحق بجهاز الدفاع المدني الفلسطيني بغزة عام 2007م، وتنقل بين إداراتها في التدريب والإسعاف والطوارئ.

مر موسى بثلاثة مواقف فارقة في حياته، في العدوان الإسرائيلي عام 2008م أصيب حينما كان يسعف المصابين بأحد المواقع الشرطية المستهدفة، وكانت إصابته خطرة مكث على إثرها بالعناية المكثفة يومين، واستؤصلت بعض الأجزاء من بطنه وركبت له شبكة بلاستيكية.

وهكذا بدأ رحلة من المعاناة والألم، وانقطع عن لعب كرة القدم، لكن بقي يمارس عمله حتى أصيب في قدمه بعدة شظايا في أثناء محاولته إسعاف المصابين عام 2012م (العدوان الثاني)، وفي العدوان الأخير عام 2014م في أثناء إطفائه منزلًا مستهدفًا أطلق عليه صاروخ آخر فسقط في حفرة على قدميه، وأمضى أسبوعًا بعيدًا عن العمل.

"كان موسى شخصية جريئة بالدفاع المدني، كانوا يستدعونه للأعمال الخطرة وإنقاذ مفقودي الأنفاق التجارية برفح، له بصمة في أغلب مدارس الثانوية (للذكور والإناث) حيث أعطى دورات ومحاضرات في الدفاع المدني" يثني مهدي على شقيقه.