لم يغمد الشعب الفلسطيني سيفه منذ أن احتلت أرضه وتم تهجير أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في بقاع الأرض، على الرغم من أنّ العبء الأكبر من فكرة تحرير فلسطين حمّلتها الشعوب لأنظمتها الرسمية لعقود طويلة معتقدة أنّ بإمكانها القيام بذلك، وقد غاب عن ظنّها أنّ هذه الأنظمة التي تقلدت الحكم لعشرات السنين وما تزال، إنما هي تسعى بكل جهدها لتثبيت أركانها على رقاب شعوبها بمعزل عن تحرير فلسطين من عدمه، وإن كان شعار التحرير هو عبارة عن أداة استعملتها هذه الأنظمة لدغدغة عواطف شعوبها ودرء غضبتها في ذروة المدّ القومي.
بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بتمثيلها للشعب الفلسطيني من قبل هذه الأنظمة، حملت العبء وشكلت قواتها التي انتشرت في الأردن في بداية الأمر، وقد تم اعتماد الكفاح المسلح وسيلة وحيدة للتحرير على اعتبار ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ونفذ الفدائيون الفلسطينيون العمليات تجاه أهداف الاحتلال في الداخل والخارج، واستمرت هذه الحالة الثورية إلى ما بعد اجتياح لبنان وتشتيت القوات الفلسطينية.
جاءت الانتفاضة الأولى عام 1987م، كرد على ممارسات الاحتلال القمعية، وكانت صادمة في حجم المشاركة الشعبية فيها، وانتهاجها منهجاً سلمياً مؤثراً في التأثير على الرأي العام العالمي من جهة ولفت الأنظار للقضية الفلسطينية من جهة أخرى، بعد أن خبا الحديث فيها عقب خروج القوات الفلسطينية من لبنان وضعف الضغط العربي والدولي تجاه ايجاد حل عادل ينهي معاناة الشعب الفلسطيني.
لأسباب كثيرة اتجهت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الخيار السلمي، وبدأت مفاوضات أوسلو التي أعقبها توقيع اتفاق مبادئ أدى إلى قيام السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان هدف منظمة التحرير هو قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، مقابل الاعتراف باحتلال باقي الأراضي الفلسطينية عام 1948م والاعتراف بدولة الاحتلال، وترك الكفاح المسلح كوسيلة للتحرير، وقد تطلب ذلك التعديل الكبير على الميثاق الوطني الفلسطيني،
في المقابل فقد أثبتت السنوات التي أعقبت قيام السلطة الفلسطينية والمضيّ في المفاوضات لقيام الدولة الفلسطينية، أنّ الاحتلال لم يلتزم بالاتفاقيات وقام بإعادة احتلال المناطق الفلسطينية التي تدار من قبل السلطة الفلسطينية، وبذلك تكون السلطة الفلسطينية قد فقدت سيادتها على الأراضي التي ستقيم عليها دولتها المستقبلية كنتيجة للمفاوضات، وقد فشلت كل لقاءات التفاوض الثنائية بين الجانبين بسبب تعنت الاحتلال في المواضيع الأكثر أهمية والتي تأجلت للمرحلة النهائية للمفاوضات وعلى رأسها موضوع القدس والحدود وحق العودة، وزيادة على ذلك فقد استمرت دولة الاحتلال بإقامة المستوطنات في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
الواقع الدولي والإقليمي المحيط بالقضية الفلسطينية أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، فقد انتصرت الثورات المضادة على حركة الشعوب العربية الداعمة للحق الفلسطيني، إضافة لتبني الولايات المتحدة وجهة نظر الاحتلال بصورة كاملة وكان نقل السفارة الأمريكية والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال دليلا على ذلك، ومن جهة أخرى فقد تراجعت القضية الفلسطينية كأولوية لدى النظام العربي الرسمي الذي بدا موافقاً على الحلول الأمريكية والإسرائيلية، كل ذلك يعتبر بيئة مناسبة لقلب الطاولة على حلم دولة فلسطينية سعت لها منظمة التحرير والقوى المؤثرة فيها وعلى رأسها حركة فتح من خلال المفاوضات، وبالتالي تنفيذ حل أحادي من قبل الاحتلال والقوى الداعمة والمتواطئة معه.
ما سبق يدل دلالة واضحة على أنّ الخيار السياسي الذي انتهجته منظمة التحرير وحركة فتح قد فشل فشلاً ذريعاً، والأسوأ في هذا المشهد؛ أنّ الخيارات السياسية لم تعد ممكنة لتحقيق دولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة عام 1967م وذلك بسبب التغييرات التي أحدثها الاحتلال على الأرض وبسبب الارتباط العضوي بين استمرار السلطة الفلسطينية بعملها بصورة آمنة وتحقيق احتياجاتها المالية بحدها الأدنى والإدارية ، مقابل قيامها بالتزاماتها الناتجة عن الاتفاقيات الثنائية والتزامها بسلمية خياراتها النضالية.
لا يوجد في الأفق ما يشير إلى وجود برنامج تتبناه منظمة التحرير كبديل عن خيار المفاوضات، وهي حسب تصريحات قادتها ما زالت متمسكة بذات الخيار وتقوم سلطتها الفلسطينية بالتزاماتها التي نتجت عن الاتفاقيات من طرف واحد وعلى رأس هذه الالتزامات الالتزام الأمني، في حين تراجعت دولة الاحتلال عن الكثير مما وقعت عليه.