في الحالة العربية منذ عقود طويلة تمسك الدولة بأجهزتها ومؤسساتها التي لا فصل بينها (الأمن والقضاء والإعلام) بمسار ومسيرة الأفراد والجماعات التي تعيش تحت كنفها, وكل من حاول العزف خارج السرب تكون المؤسسات التابعة للدولة العربية -بمختلف أقطارها- له بالمرصاد.
وحين يقوم أي مواطن يعيش في الدولة العربية بإطلاق لفظ أو تعبير ينتقد فيه النظام أو سياسته, بما هو أكثر من المسموح -والمسموح شحيح جدا ولا يكاد يبين- فإن مؤسسات الدولة العربية لن ترحمه وستتعرض له بالسجن والمحاكمة والتضييق عليه في رزقه وقد يصل التضييق والنبذ إلى أفراد أسرته.
لذا فإن الحالات التي كانت وما زالت تظهر ناقدة بالكلمة أو الصورة ناهيك عن الموقف, للسياسة التي تتبعها الدول العربية, أو للنظام العربي سين أو صاد, هي قليلة نسبيا ويعتبر المتصدر لها فدائيا أو مغامرا أو ثائرا من طراز خاص, وقد يوصف بأنه أصلا أداة للنظام لامتصاص الغضب الكامن أو للتنفيس.
لا بد من وضع الحقيقة أعلاه بعين الاعتبار حين يرغب كائن من كان في دراسة أو تفسير الحالة التي تكاثر وازداد المنخرطون في سياقها مؤخرا وهي التطبيع مع الكيان الصهيوني بطريقة أو بأخرى.
فمثلا الماراثون الإسرائيلي في شوارع وأراضي القدس المغتصبة، الذي شاركت فيه دولتان عربيتان في الرابع من أيار/ مايو من العام الجاري 2018 وقاطعته دول أخرى تقيم علاقات رسمية مع الكيان العبري، هو عينة أو نموذج واضح ومؤشر قوي على حالة التطبيع العلني؛ فلا يمكن الركون وتصديق التبرير بأن هذا التصرف في هذا الوقت الحرج محض شطحة فردية معزولة، في ظل حقيقة تحكم الدولة العربية بمسارات الأفراد والجماعات والنقابات والفعاليات, ولو قبلنا جدلا وبتحفظ شديد فرضية التصرف الفردي غير الحاصل على ضوء أخضر رسمي، فما هو الإجراء العقابي الرسمي الذي اتخذ بحق من قام بهذا التطبيع في هذا الوقت وهذه الظروف؟ لا شيء، بل لا توبيخ أو حتى لوم أو عتاب عابر، وأيضا ما هي الإجراءات لمنع تكرار مثل هذه التصرفات التطبيعية الفجة، وكبح جماح من قاموا بها؟ لا يوجد!
ولا ينفصل عن ماراثون التطبيع تلك الحالة من التصهين التي يجاهر بها من يوصف بأنه ليبرالي مع من هو على نقيض الليبرالية ومحسوب على أهل الدين أو مشايخ المسلمين، عبر نشر تغريدات أو مقاطع فيديو، أو إطلاق تصريحات في لقاءات إعلامية، موغلة فيما لا يمكن لنا إلا أن نصفها بالتصهين العلني الصريح؛ فالتصهين هنا هو أن يرى المتصهين حقا للمعتدي المحتل الغاصب في أرض فلسطين وتبرير عدوانه على الشعب الفلسطيني، وينادي بالسلام معه وموادعته، في ذات الوقت يقذف الضحية، أي الشعب الفلسطيني بأقذع الافتراءات والأكاذيب لا سيما تلك الفرية الممجوجة بأن الفلسطيني قد باع أرضه وتنازل عن حقه تارة، وتارة أخرى بالهجوم على حركة حماس وشتمها بدعوى أنها فرع من الإخوان المسلمين، أو بذريعة أنها على علاقة مع إيران، وقد وصل الحال بأن يحتفي الناطق باسم جيش الاحتلال الصهيوني أفيخاي أدرعي بتبني وصف الحركة من بعض العرب بـ(الإرهابية) وهو ذات الوصف المستخدم من أدرعي ودولته، مع كيل المدح الاستفزازي لتطبيع العلاقات مع الصهاينة بحجج تلبس ثوبا دينيا أو سياسيا أو غيرهما.
ولا يقتصر هذا المدح للصهاينة الذي وصل حدّ الدعاء والتمني بانتصارهم على شخصيات معروفة إعلاميا، بل ثمة حالة مقززة لمواطنين عاديين من غير قُطر عربي يسيرون في هذا الاتجاه بتغريدات أو فيديوهات، ويكيلون السباب المقذع للشعب الفلسطيني، ويتغزّلون بالمحتل الإسرائيلي.
والمنطق المفهوم أنه لا أهل الشهرة من صحافيين وإعلاميين وأكاديميين أو مشايخ، ولا أي مواطن عادي يمكن أن ينشر تغريدات متصهينة وتطبيعية إلا لمعرفة-على أقل تقدير- وثقة وقناعة أنه بهذا لن يغضب أجهزة دولته ولن تلومه ولو بشطر كلمة، بعكس اتخاذه مواقف سياسية أخرى، يكفي التلميح لها بزجّه في السجن، وبهذا تنتفي حجة تفسير السلوك المتصهين بالعمل الفردي!
قد يكون الهجوم على الشعب الفلسطيني والتعرض له بالهجاء البذيء ليس جديدا؛ فحين اغتيل يوسف السباعي في 1978 شنت الصحافة المصرية هجوما شرسا على الفلسطينيين، وأثناء تشييع جثمان السباعي كان هناك شتم علني للفلسطينيين؛ وإذا أردنا مقارنة تلك الحالة بالواقع الراهن سنجد اختلافا واضحا؛ فالسادات وقتها تمت مقاطعته عربيا بعد أن زار القدس وخطب في الكنيست، وبالتالي فما كان يصدر من مصر وقتها مستنكرًا عربيا ضمنا، وبالطبع يمكن أن نضع الأمر في خانة فورة الغضب ولو جزئيا، وأيضا فإن السادات مقابل خطوته المعروفة قد حصل على مساعدات أمريكية لمصر مستمرة حتى الآن، واستعاد ولو شكليا سيادة مصر على سيناء.
ولكن الآن ما الذي يجنيه العرب من هذه المواقف؟ فدونالد ترمب يعلن بصلافة وعجرفة أنه لن يساعد بل سيشفط المال العربي، و(إسرائيل) تعلن أنها لن تتنازل عن أي شبر من الأراضي وأن فلسطين صارت دولة يهودية... وفوق كل ذلك كانت وسائل الإعلام محدودة ولا تصل الكلمات والمواقف بالسرعة والزخم الذي عليه الحال اليوم، فاليوم يمكن أن ترى حالة وظاهرة ملخصها: عدد لا يستهان به من العرب، ومنهم نخب وشخصيات عامة إعلاميا أو أكاديميا أو دينيا يكيلون المديح ويدبجون عبارات الغزل للصهاينة علنا، وفي نفس الوقت يشتمون الشعب الفلسطيني ويرمونه بتهم باطلة.
وإذا كان النظام العربي الرسمي يتعرض لضغوط أمريكية لا يستطيع مواجهتها، فيفترض أن ضرورات النظم لا تؤثر سلبا على خيارات الشعوب، بل قد يكون الموقف الشعبي عامل تخفيف للضغوطات أو تقليل أثرها إذا أحسن استخدامه، ولكن ما يجري شيء مختلف، فكأن النظام يريد استخدام منصات غير رسمية لإيصال رسائل ومواقف إلى (إسرائيل)، بغض النظر عن الأسباب، سواء كانت استرضاء للأمريكان، أو مماحكات وخلافات عربية-عربية أو عربية-إيرانية/ تركية أو حسابات وتقديرات سياسية خاطئة أو بائسة.
أما التوقيت المشبوه فحدث ولا حرج؛ فهذه الهجمة التطبيعية والمتصهينة تأتي تزامنا مع إعلان ترمب أن القدس عاصمة (إسرائيل)، ونقله سفارة بلاده إلى المدينة المغتصبة، وفي ظل تزايد الحديث عن صفقة القرن التي تحمل أسرلة المنطقة بلا رتوش، وبالتزامن مع مسيرات العودة على حدود غزة، التي يقودها المتهمون من بعض العرب بأنهم باعوا أرضهم، فيرتقي منهم عدد كبير من الشهداء، ويصاب العديد منهم بإصابات بالغة، وبدل الوقوف معهم ولو بكلمة طيبة ومواساة أخوية، يتم شتمهم عبر مواقع التواصل بلا ذرة من حياء.
والمبادرة العربية للسلام التي مرّ عليها 16 سنة، والتي لم تسحب من فوق الطاولة، مع التهديدات السابقة بذلك، فقد نصت على أن ثمن السلام والتطبيع، هو انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المحتلة في 1967 بما في ذلك القدس... فهل تم تعديل المبادرة سرّا لتصبح تطبيعا بالتزامن مع التهويد؟!
ولمن يتهم الفلسطيني كذبا ويرميه ببهتان بأنه باع أرضه، هل المسجد الأقصى يخص الفلسطيني وحده دون العرب والمسلمين؟ وهل تظنون بأنكم بهذه المواقف المخزية تلقون عن كاهلكم المسئولية الدينية والتاريخية والأخلاقية؟
الهجاء لم يسلم منه حتى سيدنا رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وكثير من الثوار ومن تصدوا للغزاة قد شُتموا ونالت منهم أقلام وألسن، ولكن شتان ما بين هذا وذاك، وما نراه اليوم هو زبد سيذهب جفاء وسيمكث ما ينفع الناس في الأرض.