فلسطين أون لاين

​بين خياري "التعليم" و"بيع التّرمس"

شكرًا للمرأة التي خطّت بـبِشْرها طريق الحُسامِ

...
غزة - حنان مطير

لم تكتفِ "بُشرى جحجوح" بتقديم النصيحة لأخيها والتوقف عند الحدود النظرية للحديث، إنّما اتّخذت التجربة العملية طريقًا لرسم مسار حياتِه، كانت الموجّه له بمجرّد أن توفي والدهما الذي ترك حزنًا كبيرًا في نفوس أبنائه ويُتمًا كبيرًا في قلب آخر العنقود.

الشعور بالفقد خيّم بظلالِه على الصغير؛ فخشيت بُشرَى _وهي معلمة اللغة العربية في إحدى مدارس غزّة_ أن يؤثر ذلك على مستقبله الدّراسيّ، في حين كانت الشهادةُ والعلم بنظرِها ولا يزالان هما الأهمّ والأولَى من أي شيء، في الوقت الذي توجّه فيه أخوها نحو "تطبيش" مركبات الاحتلال، ووضع المتاريس في ظلّ الانتفاضة المستمرة.

كبر الصغير وصار حسامًا، قادرًا على القطع بين ما فيه الخير وما من خلفِه الشّر، ليقدّم اليوم عظيم امتنانِه لمن هي في نظره صاحبةُ "الاسم على المسّمى" بُشرى، التي كانت في طريقِ حياتِه نورًا كنور الفجرِ وروحًا تنبع بالبِشر.

الصحفيّ حسام جحجوح (35 عامًا) المحاضر الجامعي هو ذلك الأخ "المشاكِس"، وهو ضيف حلقة "أهل الفضل" في سطورها، يحكي لـ"فلسطين" حكايته مع أخته "بشرى" التي شكّلت الأساسات في طريق حياتِه، ليقول لها على الملأ المكتوب: "شكرًا حبيبتي، شكرًا مُوجّهتي".

ويروي: "عام 2008م في أول وقفةٍ لي أمام جمهور الطلبة في القاعة الكبيرة التي اكتظّت بثمانين طالبًا من أعمارٍ مختلفة لاحت لي أختي بُشرَى، وتوهّجت في ذاكرتي كشمس الصّباح؛ فبدعمِها الأكبر لي معنويًّا وماديًّا، وبأخذها أمر توجيهي وإرشادي على عاتقِها بِتُّ واقفًا بفخرٍ أمام أولئك الطلبة".

لقد أرادت بشرى لحسام أن يُحدّد مستقبله بيديه وأن يختاره عن قناعةٍ تامّة، حين شعرت أن الدراسة لم تكن التفكير الأول والأخير في حياتِه في تلك المرحلة، خاصة حين كان يعود إليها بوجهٍ وكفّين قد سخّمها دخان إطارات "الكاوشوك".

يروي: "لطالما فرّقت لي بين الشّخص المتعلّم والجاهل، ليس بالكلمات النظرية فقط، إنما بالتطبيق العملي، فقد دفعتني في إجازة الفصل السادس الابتدائي إلى بيع التّرمس على شاطئ بحر السودانية لتجريب مدى العناء الذي يعيش فيه الباعة، وهم الذين بالعادة لم يحظوا بدرجة جيدة من التعليم".

ويصف: "لم أحتمل قوّة حرارة الشمس العمودية ظهرًا ولا إزعاجات المارّة والمشترين، ولا إرهاق المشي الطويل واللفلفة، فلم أتمكّن من التأقلم مع البيع قط، حتى إنني كنت أحيانًا أبيع متمشّيًا على شاطئ البحر، لشدة ما لم تستهوني فكرة البيع، بدلًا من أن أغوص بين الناس وأدور بينهم".

لم تنته التجربة العملية بعد، ففي إجازة العام الذي تلاه عمل جحجوح من الساعة الثامنة حتى الخامسة في محلّ لصنع الأحذية البلاستيكية، يقف قبالة ماكينة ضخمة فيها درجة الحرارة 35 درجة مئوية، وكانت اللحظة الأصعب حين يفتح الماكينة ويستخرج الحذاء البلاستيكي السّاخن بيديه، وفق قولِه.

أما وقت الغداء _كما يروي حسام_ فكان محدّدًا مكانه ووقته الذي لا يزيد على نصف ساعة، فكان صعبًا عليه وغير مقبولٍ شعور تحكّم الآخرين به في كل دقيقة.

كان العمل مرهقًا جدًّا، ولشدة التعب غفلت عيناه فسها وألقى برأسه قرب الماكينة، التي أوقظته على "كَبْسةٍ" غارت على كتفِه فنزف حتى نقلوه إلى المشفى جريحًا، حسبما يحكي مستذكرًا.

وبتلك المواقف لم يكن أمام جحجوح سوى اختيار الدّراسة بل التفوّق _وفق قوله_ طريقًا لحياتِه المستقبليّة، لقد كانت دروسًا عميقة في الذاكرة والجسد.

حتى دخل المرحلة الثانوية ووصل إلى التوجيهي، فكانت العائلة كلّها تغادر الشّق الذي يدرس فيه إلى الشّقّ الآخر بأمرٍ من "بُشرى"، فيشاكسهم ويلحق بهم، فيعاودون الانتقال إلى ذاك الشّق الأوّل، فضلًا عن "الشوكولاتة" و"النيس كافيه" و"الشيبس" التي كانت تُجهّزها له كي يواصل دراستَه ويتفوّق، حسبما يروي حسام مبتسمًا.

وفي مدرسة صلاح خلف في مخيم الشاطئ صدح اسم "حسام جحجوح" عبر الإذاعة (الرّاديو) ضمن الأوائل على مدرسته، ليختار فيما بعد تخصص الإعلام في الجامعة الإسلامية، ومن بعدها يقرّر أن يدرس الماجستير، فتبارك له "بُشرى" ذلك وتدعمه كما قبل ماديًّا ومعنويًّا.

وفي يوم مناقشة الرسالة كان المعبر مغلقًا ولا أحد من أهلِه برفقته، تمنّى لو أنهم يشاركونه في فرحتَه، ولو أنّ "بُشرى" تكون معَه لتسمع إعلان النتيجة بتقدير "امتياز" على لسانِ أساتذتِه، فكان أقرب الحلول إلى تحقيق ذلك أن يُتوّج جهدَها بالاتصال عليها عبر الهاتف وفتح "السبيكر" وإسماعها النتيجة.

وفي كل يوم يمرّ وفيه يكبر حسام تزداد كلمات الشكر "لبُشراه"، ويعظم الفضل والامتنان.