فلسطين أون لاين

​نِعم الـ"هبة" أنتِ

...
الخليل / غزة - فلسطين أون لاين

بقلم/ بهية النتشة زوجة الأسير ماهر الهشلمون

اسمك هبة وكنت فعلًا هبة الله لي في أشد أيامي ضعفًا، فقد كنت أرتجف كالغصن الرقيق الجاف تتخبطه الريح من كل مكان في يوم عاصف، تجتاحني العواطف متمردةً شقية، تؤزني أزًا، أدور حول نفسي في أرجاء البيت كمن ينازع روحه كي لا تخرج، لا أنكر وقوف الكثير حولي يسمعني ويطبطب على روحي المنهكة، ولكن كانت لمسة يدك الأحن وكلماتك إلي الأقرب، لديك من الذكاء ما كان يملك مفاتيح نفسي فأتقنتِ صنعتكِ كمحترف فاق علماء النفس علمًا.

تذكري معي فتاة في السادسة والعشرين، "بهية النتشة"، تلك التي عاشت في عزٍ ودلالٍ من زوجها الشهم الحنون المُحب، لديها طفلان كالقمر، ومنزل دافئ تخرج منه أنوار السكينة والمحبة وضحكات الأطفال البريئة المغمورة بحنان بريءٍ من أبٍ وأمٍ لا يزالون أطفالَ الروح كأبنائهم، أصوات الصلوات والدعوات كانت تحفّ هذه العائلة التي كنت أنا الملكة الأسطورية فيها.

تذكري كيف قُلبت تلك الحياة إلى منزل فارغٍ من كل شيء إلا من دمعات خفية نزلت بصبر ورضا في ليلة من ليالي الخريف الباردة، مع أصوات وصرخات محتل فاجر لا يرحم.

تذكري خروج أخوكِ فاديًا القدس بروحه وكل الدفء والسكينة التي ذكرتْ الآن!

لم يكن دورك ظاهرًا بعد في تلك اللحظات.. فتلك اللحظات كانت كالقيامة ترى القوم فيها كمن يفر من قسورة لا يدري أين المفر، أين الطريق وبأي اتجاه تكون النهاية!

بعد أن هدم الاحتلال منزلنا الدافئ ذاك الذي تذكرينه، وأصبحت أعاني تبعات غياب زوجي الأسير الجريح الذي أثخنه الاحتلال رصاصًا، كُنتٍ "هبة" حقًا، كم دامت تلك الاتصالات الطويلة بيننا أشكو لك تفاصيل التفاصيل من كلمة أو نظرة ضايقتني، لم أشعر أنكِ مللتِ يومًا، أو تهربتِ، أو نفد صبرك عليّ، مع أني كلما عدتُ لتلك الأيام أشعر كم كنتُ مزعجةً عنيدة، أُكثر اللغو وإعادة الحديث على مسمعك كمن يحدث نفسه آلاف المرات في ما أهمّه.

أذكر كم كنت مستمعة جيدةً، تساير كل تقلباتي وعنفوان أحزاني الذي كان غضًا طريًا في ذلك الوقت، كم كنتِ جسرًا رحيمًا بيني وبين سائر إخوتك، وما زلت.

أنت ملاذي الآمن الذي أبوح له دون تنميق الكلام وترتيبه.

لم تقف مواقفك العظيمة على النصح والإرشاد والاستماع الجيد، بل امتدت يدك العطوفة لأبنائي الذين وجدوا بك ريح والدهم الذي غيبه قهر السجان عنّا فأصبحتُ أشعر أبنائي كلما زُرْتِنا يرددون إنا لنجد ريح والدنا الحنون!

ربما تضمك "مريمتي" الصغيرة أكثر مما تضمني، وتشرب من عطفك حتى ترتوي، وطالما عدّ "عبادة" نفسه طفلك، وأبناؤكِ إخوته، وكانت قمة سعادتهما بمجرد معرفة قرب زيارتك لنا من رام الله كل فترة.

عندما قرر أخوك تنفيذ عملية ضد الاحتلال الصهيوني، كتب في وصيته أن أستشير في أموري كلها اثنين من إخوتك، في الحقيقة لو اطلع ماهر على الغيب لوضع اسمك معهما فاكتملت الصورة حقًا، هم يتدبرون شؤوننا التي تحتاج عقلًا، وأنت لك الجانب العاطفي والإنساني والاجتماعي أو يزيد.

نِعم الأخت أنتِ، ونعم الصديقة والرفيقة.

وإني حقًا أحتفظ لك بمكانة عظيمة، أنت وكل من كان له فضل علي -بعد الله- في أن أقف على قدميّ ويشتد عودي في أشد البلاءات التي قد يختبرها الإنسان يومًا حقًا لكم الأجر العظيم فقد أحييتم فيّ إنسانًا صابرًا مُصبرًا من حوله عنصرًا فاعلًا في المجتمع واثقًا من نفسه وقدراته.

لقد جعلتموني أتكلم يوميًا عن بلائي كناجٍ وليس كضحية وأستخدم واقعي المؤلم لأزرع زهر اللوز على جبال الأمل التي ستزهر دومًا في كل عام وينتهي معها شتاءٌ بارد قارس مرّ به الكثير!

وحتى يأذن الله لنا بالحرية رغم المؤبدين، وما بعد الحرية بكثير أقول لك جزاكِ الله عنا كل خير.