الإيجابيات والسلبيات سمة ملازمة لكل عمل, فمن لا يعمل لا يُخطئ؛ إلا أن البعض قد يتسرع في إصدار أحكامه حول النتائج الأولية لفعاليات مسيرة العودة مُدعيا بأنها فشلت في تحقيق أهدافها, ربما بحسن نية لعدم وضوح الرؤية واكتمالها وإما بسوء نية لمن أدمن حياة الذل والهوان وأبي إلا أن يكون بوقا للاحتلال لنقل رسائله المسمومة التي تسعى لزرع حالة اليأس وروح الهزيمة وتثبيط العزائم لوقف المسيرة؛ بل إن هناك من يدعي بأن دماء الشهداء والجرحى ذهبت هدرا بدون فائدة, وكأن آلة القتل الإسرائيلية توقف في يوم من الأيام أو أنها بدأت مع انطلاق فعاليات مسيرة العودة! متناسيا بأن معاناة الشعب الفلسطيني وعذاباته بدأت منذ أن وطئت أقدام بني صهيون أرض فلسطين في بداية القرن الماضي وما صاحبها من مجازر بدءا من أحداث البراق ومرورا بمجازر دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم وغيرها, وكأنه لم يسمع عن المجازر التي ارتكبتها (إسرائيل) في غزة خلال حروبها الثلاث قبل أعوام فقط! وكأنه لم يسمع ما قاله شارون حينما كان رئيسا للحكومة (أريد أن أصحو كل يوم على أخبار مقتل العشرات من الفلسطينيين)! بل وكأن معاناة الفلسطينيين تقتصر على الشهداء والجرحى! أما ملايين المهجرين وآلاف الأسرى وسِنِي الحصار والإذلال على حواجزهم الملعونة لا تدخل في حساباتهم؛ ما أقوله لا يعني التقليل أو الاستخفاف بدم الشهداء وتضحياتهم؛ بل إدراكا بأن التخلص من عار الاحتلال وانتزاع الحقوق يتطلب التضحية بالغالي والنفيس, لا سيما أن مؤشرات نجاح المسيرة تجلت في عدة مجالات:
1- مجرد خروج مئات الآلاف بعد 12 عاما من الحصار الخانق ورغم اشتداد الأزمة هو بحد ذاته إنجاز, كيف لا وقد تشابكت أيادي الصغار والكبار, بل إن ذوى الاحتياجات الخاصة أبوا إلى أن ينالوا شرف المشاركة فيها؟ كيف لا ونحن نرى عوائل الشهداء وأعداد من الجرحى ما زالوا يشاركون ويصرون على مواصلة الطريق.
2- تمكنت من توحيد اطياف الشعب الفلسطيني تحت علم واحد وأمام عدو واحد رغم تعدد الرايات وكثرة الخلافات.
3- أفشلت محاولة (إسرائيل) ومن سار في ركبها في إشعال حرب داخلية سواء من خلال التحريض العلني أو بتشديد الخناق وذلك انسجاما مع السياسة التي اتبعتها المخابرات الإسرائيلية منذ عشرات السنين في ضرب الشارع الفلسطيني بعضه ببعض.
4- ظهور الإبداعات الفلسطينية كالأطباق الحارقة التي أرقت مضاجع المستوطنين ودفعت عضو الكنيست حاييم يلين للمطالبة بالتعامل معها على أنها صاروخ لما لها من تداعيات خطيرة قد تُسبب في نزوح مستوطني غلاف غزة.
5- كشفت عن حالة التخبط والعجز السياسي والعسكري في كيفية التعامل معها, فتارة يُهددون باغتيال القادة, وتارة يحذرون السكان وتارة أخرى يتوددون ويعِدون بالعمل على تخفيف الحصار كما أشار إلى ذلك ليبرمان رغم طبيعته الشريرة ورؤيته العدوانية.
6- تعالي الأصوات المطالبة بتخفيف الحصار عن غزة من قبل المحللين والمتابعين رغم اختلاف رؤاهم وتوجهاتهم, وليس أدل على ذلك هو ما قاله رئيس جهاز المخابرات السابق يعقوب بيري "بات من الواجب على (إسرائيل) العمل على تجنيد دول العالم لتخفيف الحصار, لأنها الوحيدة التي ستتحمل نتائجه".
7- استنزاف جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدار أشهر بسبب نشر الآلاف من الجنود والعديد من الوحدات الخاصة, وهو ما أدى لوقف التدريبات لأول مرة منذ سنوات, عدا عن تعطيل نسبي لبناء العائق الذي تعول عليه (إسرائيل) للقضاء على خطر الأنفاق الهجومية.
8- القضية الأهم هي جرأة الشباب الثائر وروح الإقدام التي تميز بها باعتبارها مؤشر خطير سيكون له دور مهم خلال المعارك المستقبلية مع الاحتلال لا سيما أن أرقى الجيوش وخصوصا الجيش الإسرائيلي يفتقر لمثل هذه الروح.
9- لجوء عدد كبير من الضباط والجنود الذين شاركوا في عمليات قتل المتظاهرين لطلب المساعدة من النيابة العسكرية لحمايتهم خشية تعرضهم لمحاكمات دولية خصوصا بعد إعلان مجلس حقوق الإنسان عن تشكيل لجنة تحقيق دولية.
أما عن الإخفاقات والسلبيات فهي عدم قدرة على تحريك الشارع الفلسطيني في كل مناطق تواجده وتشتته, وتحريك الشارع العربي بالمستوى المطلوب, أضف إلى ذلك هي العمليات الفردية التي يقوم بها البعض بشكل عفوي مما يؤثر سلبا على طابعها السلمي, أمام ذلك كله فإن المطلوب هو الاستمرارية في فعالياتها مع البحث عن وسائل لترسيخها وتطويرها وتقليص خسائرها, مع التأكيد على طابعها السلمي, لاسيما واننا أمام مرحلة تاريخية هامة ومفصلية يجب أن يكون للأحرار كلمة الفصل فيها, وإلا فلنترك الساح ونُسلم السلاح ونُقيم الأفراح احتفالا بتسليم القدس واستمرار تدنيس الأقصى وبعد ذلك كله نطأطئ رؤوسنا خانعين أمام سفاحي العصر ومجرموه, وهو ما لم ولن يحدث أبدًا.