مرت الذكرى السبعون للنكبة الفلسطينية دمويةً كما بدأت، وكما استمرت عبر سِنِيِّها الطوال، ولكنها، أيضا، أعادت التأكيد على أن الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من خذلان القريب قبل البعيد، وتواطؤ كثيرين من الأشقاء، وتوهان قيادته السياسية، خزّان تضحيةٍ لم ينضب يوما، وأنه ما زال قادرا على العطاء في سبيل حريته وكرامته واستقلاله. وكما أن المجزرة الدموية التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني بحق متظاهرين سلميين في قطاع غزة، يوم الإثنين الماضي، أعادت تأكيد المنشأ والطبيعة الوحشية للدولة العبرية، فإنها أثبتت، أيضا، أن الشعب الفلسطيني لم تنكسر إرادته، ولم تخُر عزيمته، وأن إسرائيل ستبقى مهدّدة ما دام احتلالها وظلمها قائما، فالضحية لم ترفع الراية البيضاء، ولا هي تقبل بوضع الضحية المستسلمة.
الكيان الصهيوني، شاء أم أبى، سيبقى يواجه معضلةً وجوديةً، حتى وهو في أوج قوته وجبروته وغطرسته، وذلك على الرغم من الدعم اللامحدود الذي يلقاه من دول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، وعلى الرغم من تسابق كثير من أنظمة العرب نحوه تطلب ودّه وحلفه، على حساب الشعب الفلسطيني والمصالح العربية الجَمَعِيَّةِ الكبرى
الكيان الصهيوني، شاء أم أبى، سيبقى يواجه معضلةً وجوديةً، حتى وهو في أوج قوته وجبروته وغطرسته، وذلك على الرغم من الدعم اللامحدود الذي يلقاه من دول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، وعلى الرغم من تسابق كثير من أنظمة العرب نحوه تطلب ودّه وحلفه، على حساب الشعب الفلسطيني والمصالح العربية الجَمَعِيَّةِ الكبرى. عوّدتنا المواقف الرسمية العربية أنها تَخْنزُ دوما، هذا ديدنها، لكن الشعوب العربية، حتى وهي تمر بفترات وَهْنٍ وضعف، جرّاء البطش الرسمي المسلط عليها، ومحاولات حرف بوصلتها، وتشويه وعيها، تؤوب دائما إلى ضميرها الجَمَعِيِّ الصافي. ستبقى (إسرائيل) عدوا استراتيجيا لأمة العرب جميعها، وليس للشعب الفلسطيني وحده، شاءت أنظمة عربية كثيرة تطلب رضا (إسرائيل) أم أبت، فوطأة التاريخ ووطأة الوَعْيِ الجَمَعِيِّ لهذه الأمة أكبر من كل محاولات العبث بهما، وتشويههما وحرفهما.
(إسرائيل) عدوان على العرب قاطبة، وهي تَحَدٍّ لمستقبلهم ككل، كما أنها خطر عليهم جميعا، وهي ما أوجدت في قلب جسدهم إلا استنزافا لهم، ولتبقي على تشرذمهم وتفرّقهم، بل وحتى تخلفهم، وعلى كل الصعد، بما فيها منعهم حقهم من أن يكون لهم نظم حكم ديمقراطية مستقلة، تعبر عن إرادة الشعوب. إنها قاعدة متقدمة لمشروع إمبريالي استعماريٍّ غربيٍّ. وبالتالي، لا يمكن معالجة معضلتها وكأنها منبتّة عن سياقٍ أوسع، كما أنه لا يمكن تبسيط قراءة ظاهرتها واستيعابها، واختزالها في زعم أن الحركة الصهيونية تسيطر على العالم، خصوصا الغربي منه. الدول الغربية التي تتبنّى مقارباتٍ إمبريالية في سياساتها الخارجية ليست بريئةً من جرائم (إسرائيل)، وهي ليست تحت السطوة الشاملة للوبياتها، بالمفهوم البسيط المجرد. المسألة أعقد من ذلك وأكبر، ولا ينبغي أبدا تقديم أعذارٍ لهذه الدول، فسياساتها تتناغم مع ما تفعله (إسرائيل)، وما أنشئت من أجله، فهم القابِلَةُ لها، وهم شركاء في الجريمة ضدنا، وهي مرتبطةٌ بإسرائيل بعقد بمنافع متبادلة، حتى وإن تفاوت مستوى النفع بين الأطراف المختلفة بين مرحلة وأخرى.
أيضا، لا ينبغي أن ننسى هنا الدور الذي يلعبه الباعث الديني في المسألة، خصوصا بعد حركة الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا، على يد القس الألماني، مارتن لوثر، في القرن السادس عشر، ونشوء البروتستانتية التي أعادت الاعتبار للتوراة العبرانية، ومنحت مكانا متميزا لليهود. وفي أحشاء البروتستانتية التي يبلغ عدد أتباعها اليوم في العالم، قرابة التسعمائة مليون مسيحي، نمت الصهيونية المسيحية، التي تنادي بعودة اليهود إلى أرض فلسطين ونصرتهم وتمكينهم، شرطا لعودة المسيح إلى الأرض، ضمن عقيدة الخلاص التي سيدفع ثمنها اليهود في المحصلة، ذبحا أو إيمانا به (أي المسيح)، بعد أن رفضوه من قبل.
ويشكل البروتستانت اليوم قرابة نصف الشعب الأميركي. طبعا، هذا لا ينفي أن اللوبيات الصهيونية، خصوصا في الولايات المتحدة، حققت نفوذا وتأثيرا لا يستهان به على كثيرين من صناع القرار الغربيين، لكن ذلك ما كان ليكون بهذه القوة، لو لم تكن هناك قواسم مشتركة كبرى. وبهذا يتحول البعد الديني عند كثيرين من صناع القرار الغربيين حاضنة لأهداف استراتيجية عدوانية أوسع. عندما أعطي وعد بلفور البريطاني للحركة الصهيونية لاستلاب فلسطين، عام 1917، لم تكن الحركة الصهيونية بهذه القوة وهذه السطوة، وعندما اعترف الرئيس الأميركي، هاري ترومان، بإسرائيل عام 1948، لم يكن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بالقوة التي هو عليها اليوم.
وحتى تتحرّر الإرادة العربية، فعلى (إسرائيل) أن تبقى قلقة، فهذه أمةٌ أثبت تاريخها أنها تعاود النهوض، حتى بعد أن يُظَنَّ أنه تُوُدِّعَ منها، وهي، في كل الأحوال، تبقى خزان تضحيةٍ متجددا، ولا بد يوما أن تشعل هذه الدماء العربية المسفوكة ظلما وعدوانا، على أيدي الغرب وإسرائيل وأنظمة عربية لا تقل إجراما
إنه حلفٌ مدنّسٌ بينهم منذ اليوم الأول، لاعتباراتٍ استراتيجيةٍ كبرى موجهة ضدنا، لم يكن فيها الغرب "ضحية مغفلة" للحركة الصهيونية. المغفلون الوحيدون هم فينا نحن، ممن يظنّون أن الذئب المفترس قد يتحول حملا وديعا، وأن عدوا استراتيجيا قد يتحوّل إلى حليف استراتيجي. ستبقى منطقتنا في دائرة المؤامرات، وضحية للنهب والتمزيق والتشاكس البينيِّ، ما دام فينا من لا يهمه إلا كرسيه، يشغله كأنه مندوب سام ممثل لقوى أجنبية تدخل في نطاق تعريف العدو الاستراتيجي.
عودة إلى مجزرة قطاع غزة وتضحيات الشعب الفلسطيني، ودرس آخر تعلمنا إياه تضحيات أهل القطاع في سبيل حريتهم، كثيرون تساءلوا عن سبب عدم تقديم الضفة الغربية المحتلة تضحياتٍ بالقدر والمستوى ذاته؟ الافتراض الأساسي للسؤال خاطئ، فأهل الضفة قدموا كثيرا على مدى عقود طويلة من الصراع ضد الاحتلال الصهيوني، وهم ما زالوا يقدمون.
الأرضية الأصوب التي ينبغي أن ينطلق منها المتسائلون هنا هي ضرورة ملاحظة الفرق في حركة الشعوب ودافعها الذاتي للنضال والتحدي والتضحية، عندما تكون إراداتها متحرّرة من القيود الداخلية التي يمثلها الوكلاء المحليون للعدو الخارجي، أو الحاكمون بقوة البطش. رأينا هذا في قطاع غزة المتحرّر أهله من سطوة أجهزة أمن فلسطينية تمارس العمالة الأمنية للاحتلال الصهيوني، وهذه هي عقيدتها الأساس، كما قال من قبل مهندس تأسيسها، الجنرال الأميركي كيث دايتون. ورأينا ذلك في العراق، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين. حينها كان كثيرون من الشعب العراقي مقاومين، بعد أن انكسرت قيود الأبوية المروّعة التي فرضت عليهم عقودا. وحتى تتحرّر الإرادة العربية، فعلى (إسرائيل) أن تبقى قلقة، فهذه أمةٌ أثبت تاريخها أنها تعاود النهوض، حتى بعد أن يُظَنَّ أنه تُوُدِّعَ منها، وهي، في كل الأحوال، تبقى خزان تضحيةٍ متجددا، ولا بد يوما أن تشعل هذه الدماء العربية المسفوكة ظلما وعدوانا، على أيدي الغرب و(إسرائيل) وأنظمة عربية لا تقل إجراما.. لا بد يوما أن تشعل ثورات تغييرٍ جذريةٍ واعية. إننا ننتظر اللحظة التاريخية المناسبة التي ستركب فيها الأحجار على بعضها، داخليا وخارجيا، بشكل صحيح، وأعداؤنا كذلك ينتظرون معنا. فلننتظر لنرى.