لم تَصحُ عائلة الشمالي بعدُ من مرارة فقدان الأب والمعيل الشهيد محمد جبريل الشمالي، على موائد السحور والإفطار في شهر رمضان المبارك، حتى لحق به نجله البكر عبد الله شهيدًا برصاص الاحتلال الإسرائيلي أخيرًا.
وارتقى الأب المكنى بـ"أبي جبريل" شهيدًا عام 2009م، وارتقى نجله بتاريخ 22 إبريل الماضي، في أثناء مشاركته في مسيرة العودة الكبرى شرق محافظة رفح، جنوب قطاع غزة.
أكدت أم عبد الله أن أبا جبريل غاب جسدًا عن الموائد الرمضانية والجلسات العائلية على مدار تسع سنوات، لكنه حاضر بروحه وحركاته وكلماته وضحكاته بين أفراد العائلة، التي تضاعفت آلامها بفقد عبد الله ذي العشرين عامًا.
كَبُر عبد الله يومًا بعد يوم أمام عيني أمه، بعد غياب زوجها، وكلها أمل في أن يخفف عنها بعض الأحمال والمسئولية، التي خاض غمارها (مسئولية المنزل) على مدار السنوات الخمس الأخيرة.
وأصبح عبد الله في العائلة بمنزلة أب، يوزع الحنان على أفرادها، وهم: الشقيقة الكبرى نور (22 عامًا)، وجبريل الذي يتجهز لامتحانات الثانوية العامة (18 عامًا)، وفاطمة (16عامًا)، والطفلان المدللان ياسين (13عامًا) وآية (11 عامًا)، ووالدته (ريم) التي حرص على نيل رضاها.
تعلقوا به بشدة كما تعلق هو بوالده الذي عايشه مدة أحد عشر عامًا، وورث عنه التواضع والأخلاق الحميدة، واللين في أهله، والالتزام الديني، وتراه والدته "ملاكًا يمشي على الأرض"، كما كان والده، وفق حديثها.
وأقبل شهر رمضان المبارك هذا العام مثقلًا بالذكريات: سعيدها وحزينها، على العائلة التي اجتمعت حول مائدتي السحور والإفطار، بحالة من الحزن والأسى والدموع، لاسيما أن مجلسين فارغين تركهما أبو جبريل ونجله عبد الله.
الوالدة بينت في حديثها لصحيفة "فلسطين" أن عبد الله تقلد مسئولية المنزل شيئًا فشيئًا رغم انشغاله بدراسته الجامعية، خاصةً في شهر رمضان المبارك.
وقالت: "عبد الله كان يستقبل رمضان بانشغاله في إسعاد إخوته بتوفير المستلزمات اللازمة للمنزل، وشراء الألعاب والفوانيس لإخوته الصغار"، متابعة: "لم يهتم بملبسه أو مشربه أو مطعمه، وتحلى بالقناعة لنفسه، وبالكرم والحنان على إخوته".
وكان عبد الله يساند والدته في توفير احتياجات المنزل المادية والمعنوية، لاسيما العمل على عدم إشعار إخوته بغياب والدهم، والقيام بدور الأب، وفق حديث والدته.
ولفتت إلى أنه كان يطلب منها تلبية طلبات إخوانه وأخواته، وأنه كان يصب اهتمامه على العائلة رغم حاجته هو للأبوة المفقودة.
وذكرت أنه كان يتابع شقيقيه جبريل وياسين بحثهما الدائم على أداء الصلوات في المسجد وحضور حلقات حفظ القرآن الكريم وتعلمه، والتأكد من حفظ الآيات والسور المطلوبة.
وبينت أنه كان يصحب العائلة إلى البلد في نزهة قصيرة يشتري لهم خلالها البراد والبوظة، ويرافق شقيقيه إلى المسجد لأداء الصلوات، وخصوصًا صلاتي الفجر والعشاء وما يعقبها من ركعات التراويح.
وأشارت الشمالي إلى أنه تقلد شرف قيادة الأسرة في زيارات الأرحام كونه البكر، وكان يتفقد عماته وخالاته وأجداده، قائلة: "رحيله برصاص الاحتلال قتل الفرحة في قلوبنا، ونزع بهجة استقبال الشهر الفضيل".
وبينت أنها حاولت قدر المستطاع إخفاء مشاعرها أمام أبنائها منذ غياب زوجها حتى لا يتعكر صفو ودادهم وسعادتهم، لكنها اليوم لا تستطيع التحكم بنفسها مع غياب الزوج والابن.
قالت أم عبد الله: "أبنائي دائمو التذكر لمواقف والدهم في أثناء الإفطار والسحور، وخصوصًا عبد الله"، مشيرة إلى أنه كان عند كل مائدة يشير إلى مجلس والده ويقول: "هنا كان يجلس والدي".
وتابعت: "شوربة الخضار كانت وجبة أساسية على مائدة الإفطار لدى عبد الله، وكان يبدأ بها إفطاره، بعد أداء صلاة المغرب في المسجد".
ووفق ما روت والدته، كان عبد الله يقضي ليل رمضان برفقه أصدقائه في المسجد يقيم الليل، ثم يعود إلى المنزل عند السحور يوقظ الأسرة، ثم يتناول طعام السحور، ويعود إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، ثم ينام حتى قبيل صلاة الظهر.
وقالت: "كان بعد صلاة الظهر يجلس في المسجد يقرأ القرآن أو يزور الأرحام إلى وقت العصر، ثم يذهب إلى السوق لجلب احتياجات المنزل، ولا يمكن أن يعود إلى المنزل إلا وفي يده حلوان الإفطار، قطائف أو خروب أو عصير، أو مقبلات المائدة كالجرجير والفجل".
وذكرت الشمالي أنه كان يصلي صلاتي العشاء والتراويح في أحد المساجد، التي يحب سماع صوت إمامها.
وتنهدت الوالدة التي تسكن في حي البرازيل جنوب مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، ثم قالت: "قلبي يتألم لفقدانه، حتى إن موائد الإفطار تفتقده، وأصدقائه يفتقدونه، ومحراب مسجد أبو بكر الصديق يفتقده".
أضافت الشمالي: "كنت أريد سعادته بزواجه بإحدى بنات الدنيا، فبحثت له عن عروس مدة طويلة، لكنه فضّل التأني في أمر الزواج، وطاوعني أخيرًا ليكسب رضاي، لكنه رحل عن الدنيا شهيدًا، ليكون زفافه في الجنة إلى الحور العين، بإذن المولى".