ربما كانت الأسواق هي وجهة الكثيرين قبيل شهر رمضان المبارك، أما في قطاع غزة فكانت الوجهة منطقة السياج الفاصل.
توافد الغزيون، وتنافسوا في الوصول إلى هناك، إلى درجة تحولت عندها هذه المنطقة التي يرصدها جيش الاحتلال بقناصته وأسلحته الفتاكة إلى ما يشبه بستانًا يشكل كل فلسطيني وردة فيه.
وتجاعيد السيدات والرجال الذين كانوا يحضرون على مقربة من أراضيهم كانت ترسم خريطة فلسطين، بقدسها ومدنها جميعًا.
عندما كنت أؤدي واجبي المهني في التغطية الصحفية للمسيرة السلمية كنت أشتم رائحة المدن والقرى في التفاصيل التي يحفظها اللاجئون عن ظهر قلب، وأرى أزقتها وبيوتها ومفاتيحها في بؤبؤ عيونهم، وأحس حنينهم إليها بنبرات أصواتهم.
وذاكرة الأطفال التي تشكلت على حق العودة، ووعي أصغر طفل تسأله عن هدفه فيجيب دون تأتأة، أو تردد: "تحرير أرضي، والدفاع عن القدس" يثبتان بما لا يدع مجالًا للشك سقوط مقولة رئيسة وزراء الاحتلال السابقة جولدا مائير: "الكبار يموتون والصغار ينسون".
وصدور الشباب العارية في وجه الرصاص الحي وقنابل الغاز التي تنهمر عليهم كما المطر تقول للعالم: "نحن أصحاب الحق".
ودماء الشهداء التي روت تراب فلسطين تقول للاحتلال: "لم تعد أجسادنا لكن أرواحنا عادت".
وجراح المصابين التي نزفت تعيد لفت انتباه من لا يسمع ولا يرى في هذا العالم إلى حقيقة هذا الاحتلال وتاريخه الطويل في قتل الفلسطينيين العزل، لاسيما أن مسيرة العودة السلمية لم تكن بعيدة عن الذكرى الـ70 للنكبة، عندما هجرت العصابات الصهيونية أكثر من 800 ألف فلسطيني، ودمرت 530 قرية فلسطينية، بأكثر من 30 مجزرة وأوامر مباشرة من قادة هذه العصابات، سنة 1948م.
حضر هناك المرأة والرجل والطفل والشيخ، حضر الأجداد والأحفاد، تحت علم فلسطين، تهفو عيونهم وأفئدتهم إلى أراضيهم التي لا يفصلهم عنها سوى سياج احتلالي.
سادت روح التعاون بين أبناء الشعب الواحد في المسيرة، كلٌّ منهم كان أحرص على أخيه من نفسه.
رأيت لوحة متكاملة من الإبداع، والصمود، وما لا كلمات تفيه حقه من نضال هذا الشعب، وما ينبض له القلب ويتأمله العقل احترامًا وتقديرًا ووفاءً.
المجد لكل من دافع عن حقه وآمن أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، لكل طفل، وفتى، وفتاة، وشاب، وشابة، ورجل، وامرأة، ومسن، ومسنة، شاركوا في مسيرة العودة السلمية.
إن الاحتلال _وهو أوضح أشكال الإرهاب_ لن يتمكن أبدًا من تمرير مزاعمه لاستخدام العنف ضد الفلسطينيين الذين خرجوا ليطالبوا بحقوق تنص عليها القوانين والقرارات الدولية، ومنها القرار الأممي (194)، إن رواية الاحتلال الإسرائيلي مُحاصَرة، لا تنطلي إلا على من قرروا أن يبقوا خارج دائرة العدل والعدالة.
لقد وصل صوت كل جدة وجدة وأبنائهم وأحفادهم، وقد نطقت أعينهم بأنه كما لرمضان هلال واثقون به فللعودة "هلال" سيأتي حتمًا، قد يراه بعض بعيدًا، ويرونه قريبًا.